تصاعد التوترات في جنوب السودان: تحذيرات أممية من عودة الحرب الأهلية بعد توقيف رياك مشار
شهدت جمهورية جنوب السودان تطورات دراماتيكية في الأيام الأخيرة، مع توقيف النائب الأول للرئيس رياك مشار، ما أثار مخاوف دولية من انزلاق البلاد نحو حرب أهلية جديدة. وقد حذر مسؤولون أمميون وأمريكيون من أن تدهور الوضع السياسي والأمني يضع البلاد على حافة هاوية، مع تبعات كارثية محتملة على الشعب السوداني والمنطقة بأكملها.
اعتقال مشار: ضربة قاصمة لاتفاق السلام
في تطور مفاجئ يوم الأربعاء 26 مارس 2025، اقتحمت قوات تابعة لوزارة الدفاع وجهاز الأمن الوطني في جنوب السودان مقر إقامة النائب الأول للرئيس رياك مشار في العاصمة جوبا، وقامت باعتقاله. وقد أعلن حزب مشار في بيان رسمي إدانته لـ”الإجراءات غير الدستورية” التي شملت اقتحام مقر إقامته برفقة أكثر من 20 مركبة مدججة بالسلاح، حيث تم تجريد حراسه الشخصيين من أسلحتهم، وإصدار مذكرة توقيف بحقه بناءً على “تهم غامضة”.
وأصدرت المعارضة في جنوب السودان بياناً الخميس أكدت فيه أن “عملية توقيف مشار تمثل خرقاً خطيراً للاتفاق وعدم احترام لجهود إحلال السلام والاستقرار”، محذرة من أن هذا الاعتقال يجعل اتفاق السلام الموقع عام 2018 “لاغياً”. وأضاف المتحدث باسم الحركة الشعبية المعارضة، بال ماي دينق، في تسجيل مصور أن مشار “محتجز من قبل الحكومة” وأن حياته “في خطر”.
تاريخ من النزاع وجهود السلام المتعثرة
تأتي هذه التطورات في سياق تاريخ طويل من النزاع في جنوب السودان، التي حصلت على استقلالها عن السودان عام 2011. فقد اندلعت حرب أهلية في ديسمبر 2013 على أساس انقسامات عرقية، حيث اشتبكت قوات الرئيس سلفا كير، المنتمي إلى قبيلة الدينكا، مع قوات مشار، المنتمي إلى قبيلة النوير.
وأسفرت تلك الحرب عن مقتل نحو 400 ألف شخص ونزوح أربعة ملايين بين عامي 2013 و2018، عندما تم التوصل إلى اتفاق سلام أدى إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة كير ومشار. وبموجب الاتفاق، كان من المقرر إجراء انتخابات في فبراير 2023، ولكن تم تأجيلها إلى ديسمبر 2024 ثم مرة أخرى إلى 2026.
تحذيرات أممية من عودة الحرب
سارعت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (يونميس) إلى التحذير من أن توقيف مشار يضع البلاد “على شفا حرب”، داعية كل الأطراف إلى “ضبط النفس”. وقال رئيس البعثة نيكولاس هايسوم في بيان: “في هذه الليلة، يقف قادة البلاد على شفا الانزلاق إلى صراع واسع النطاق أو المضي بالبلاد إلى الأمام نحو السلام والتعافي والديمقراطية”.
وفي مؤتمر صحفي سابق عبر الفيديو من مقر الأمم المتحدة في نيويورك، حذر هايسوم من أن الوضع السياسي والأمني شهد تدهوراً ملحوظاً، خاصة بعد اجتياح ميليشيا “الجيش الأبيض” الشبابية ثكنات كانت تحتلها سابقاً قوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان في بلدة ناصر في 4 مارس.
وأشار إلى أن هذا التصعيد تبعه قصف جوي مكثف يستهدف المجتمعات في جميع أنحاء منطقة أعالي النيل، مضيفاً: “تتسبب هذه الهجمات العشوائية في خسائر بشرية فادحة وإصابات مروعة، لا سيما الحروق الشديدة بين النساء والأطفال. ويقدر الشركاء الإنسانيون أن ما لا يقل عن 63,000 شخص فروا من المنطقة”.
لجنة أممية تحذر من تبعات كارثية
وحذّرت لجنة تابعة للأمم المتحدة الخميس من أن الفشل في المحافظة على اتفاقات السلام في جنوب السودان قد يتسبب بعودة “كارثية” للحرب ويهدد حياة الملايين. وقالت اللجنة المعنية بتوثيق الانتهاكات الحقوقية في البلاد إن توقيف مشار، إلى جانب تصاعد المواجهات العسكرية والهجمات على السكان المدنيين، يعد “مؤشراً على الانهيار الحاد لعملية السلام ويشكّل تهديداً لحياة الملايين”.
وأكدت رئيسة اللجنة ياسمين سوكا أن “الاستهداف المتعمد لقادة المعارضة والمدنيين يمثّل تجاهلاً متهوراً للقانون الدولي ومستقبل البلاد”، مشددة على أن “اتفاق السلام ليس اختيارياً، بل هو ملزم. تقويضه بشكل ممنهج من قبل اللاعبين السياسيين والعسكريين ليس أمراً مخالفاً للقانون فحسب، بل خيانة لشعب جنوب السودان الذي عانى من سنوات من النزاع المدمر”.
تصاعد التوترات قبل توقيف مشار
يأتي توقيف مشار بعد أسابيع من التوترات المتزايدة والمواجهات بين القوات الفدرالية الموالية للرئيس سلفا كير وتلك المؤيدة لنائبه رياك مشار. وقد بلغت التوترات ذروتها في فبراير عندما سيطرت مجموعة “الجيش الأبيض” المسلحة، الموالية لمشار، على قاعدة عسكرية في ولاية أعالي النيل وهاجمت مروحية تابعة للأمم المتحدة.
وردت الحكومة بشن غارات جوية، محذرة أي مدني في المنطقة التي تتمركز فيها المجموعة العسكرية بالإخلاء أو “مواجهة العواقب”. وأدت تلك الغارات إلى مقتل أكثر من 12 شخصاً منذ منتصف مارس.
وفي تطور آخر يشير إلى تصاعد الأزمة، اعتقلت السلطات في جوبا الأربعاء وزير النفط فوت كانج شول ونائب قائد الجيش جابرييل دوب لام، بينما وضع مسؤولون عسكريون كبار متحالفون مع مشار رهن الإقامة الجبرية. ولم تعلق الحكومة على الاعتقالات، لكن وزير الإعلام مايكل ماكوي اتهم القوات الموالية لمشار بالتعاون مع جماعة “الجيش الأبيض” المسلحة لمهاجمة حامية عسكرية بالقرب من بلدة الناصر في ولاية أعالي النيل.
جهود إقليمية ودولية لاحتواء الأزمة
تجري الهيئة الحكومية للتنمية الدولية لدول شرق إفريقيا “إيقاد” اتصالات مكثفة بين الفرقاء في جوبا، لا سيما الرئيس ونائبه، لعقد اجتماع وتجاوز الخلافات بشكل عاجل. وترى الهيئة في هذا التصعيد تقويضاً لجهود السلام، والتنصل من الاتفاقيات السابقة التي أدت إلى تقاسم السلطة بين الطرفين.
كما أكد نيكولاس هايسوم أن بعثة الأمم المتحدة تكثف جهودها الدبلوماسية بالتعاون مع الشركاء الإقليميين والدوليين، بما في ذلك الاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، ولجنة الرصد والتقييم المشتركة المُعاد تشكيلها. وشدد على أن نجاح جهود الوساطة الدولية يتوقف على استعداد الأطراف نفسها للانخراط الجاد في الحوار وتغليب مصلحة الشعب على المصالح الخاصة.
آثار الصراع على الوضع الإنساني
في ظل هذه التوترات المتصاعدة، يزداد الوضع الإنساني سوءاً في جنوب السودان. ويشير ممثل الولايات المتحدة بالإنابة جون كيلي خلال إحاطة سابقة لمجلس الأمن الدولي إلى أن الصراعات في المنطقة تسببت في أكبر كارثة إنسانية في العالم، مع تصاعد التهديدات لأمن المنطقة وخارجها.
وأشارحذّر جون كيلي، القائم بأعمال الممثل الأمريكي البديل لدى الأمم المتحدة، خلال إحاطته أمام مجلس الأمن يوم الخميس، من التصعيد السريع للصراع المسلح والسياسي بين قادة جنوب السودان، مشيرًا إلى أن البلاد تقف على شفا حرب أهلية جديدة. وأضاف أن اندلاع حرب أهلية أخرى في جنوب السودان لن يهدد فقط أرواح وسبل عيش المواطنين الجنوبيين، بل ستكون له أيضًا نتائج كارثية محتملة على مستوى المنطقة بأسرها. تأتي هذه التصريحات في وقت حساس، حيث تتصاعد التوترات السياسية في جوبا بين الرئيس سلفا كير والنائب الأول الدكتور رياك مشار، مما يزيد من المخاوف بشأن استقرار البلاد والمنطقة