في قلب كولومبيا، حيث الأرض تحترق من أعماقها، انفجر بركان “نيفادو ديل رويز” في لحظة مفاجئة، هازماً الحياة في مدينة “أرميرو”.





كانت أوميرا سانشيز، الفتاة البالغة من العمر ثلاثة عشر عامًا، تلهو في حديقة منزلها، حين اجتاحتها السيول العاتية الناتجة عن الانفجار. لم يكن لديها فرصة للنجاة، فقد غرقت تحت ركام منزلها. أيامها الثلاثة التي قضتها عالقة بين الحياة والموت كانت أشبه بجحيمٍ من الألم المستمر.
آمالها التي عاشت بها كانت تنهار مع كل ثانية تمر. كانت تعتقد أن الموت أقرب من أي وقت مضى، لكنها استمرت في المحاولة، وتحدثت إلى المحيطين بها، تغني لهم من أجل أن تظل على قيد الحياة قليلاً. على الرغم من شجاعتها، لم يكن بيد أحد أن يوقف زحف الموت الذي كان يقترب منها في صمت رهيب.
في النهاية، التقطت كاميرا الصحفي “فرانك فورنييه” تلك اللحظات المؤلمة التي حصدت قلب الإنسانية، وهي تودع الحياة دون أي تدخل من العالم.







لكن في غزة، حيث لا مفر من الموت ولا مفر من الألم، يكتب الصحفي الفلسطيني “أحمد منصور” فصلاً آخر من فصول الوجع البطيء. قُصف قطاع غزة بشراسة، وجاء الدور على الصحفيين الذين يقدمون حياتهم فداءً للكلمة.
في صباح يوم الاثنين، استهدفت الطائرات الحربية الإسرائيلية خيمة الصحفيين في خانيونس، مجمع ناصر الطبي، وهو المكان الذي كان يلتقط فيه الصحفيون صورًا لأبناء غزة الذين يواجهون الموت كل يوم.
كان أحمد منصور، مراسل “فلسطين اليوم”، يقف هناك مع زملائه حين اشتعلت النيران من حوله. لحظات حارقة، كان جسده يتحول إلى كتلة من الألم والدخان.
تم تصوير تلك اللحظة البشعة، أحمد منصور، في غزة المحاصرة، حيث تجسد النار الوحشية التي تأكل الأجساد كما كانت تأكل الروح.
لم يستطع أن يفعل شيئًا سوى أن يصرخ، ولكن سرعان ما ازدادت النيران لتخنق صوته. كانت ملامحه تُحترق أمام أعين زملائه، ودماؤه تسيل، وفي غمرة آلامه، كانت أضواء الإنقاذ تصل متأخرة جدًا.
هو الأب الذي يعيل عائلته، وها هو يواجه موتًا محتمًا أمام عينيه، وكل ما يمكن للناس فعله هو أن يسقوه الماء من حين لآخر.
وكانت أميرة، في كولومبيا، تودع العالم على أملٍ ضعيف، أمل كان ينتزعها من الأوحال التي كانت تغمرها، بينما كانت غزة تموت على وقع صرخات الصحفيين الذين يختطفهم الموت في لحظات الحقيقة التي لا تصل إلى آذان العالم.
في ظل القصف الذي لا يتوقف، كان أحمد منصور يقاوم الموت، وكأن لحظاته تتأرجح بين الحياة والموت، بينما زميله الصحفي “حلمي الفقعاوي” يسقط شهيدًا، ليتابع بقية الصحفيين معركتهم من أجل توثيق الحقيقة.
ساعات مرّت، وها هو أحمد منصور، الأب الذي كان يعمل بجد من أجل عائلته، يتنفس بصعوبة، بينما يودع الحياة شيئًا فشيئًا، ووسط هذا العذاب، كان ينقض عليه الألم في صورة نيرانٍ، تستهدفه وسط الصحفيين الذين لم يكن في أيديهم سوى أن يظلوا يراقبون ما يحدث، عجزًا عن إنقاذه.
ومثلما كانت أوميرا في كولومبيا تختنق في بركة من الأوحال والموت، أحمد منصور في غزة يحترق في لهب نيران القصف الإسرائيلي. وفي كليهما، كانت الإنسانية تشهد النهاية البطيئة لأرواح عظيمة، تناضل حتى آخر لحظة دون أن تجد من يرحمها.
هذه القصص ليست مجرد حكايات، بل هي صرخات إنسانية لعالمٍ غارق في التجاهل، حيث النيران والخراب لا ينطفئان، والدماء تتناثر على صفحات التاريخ دون أن تُسمع أصوات أهلها. فهل سيظل العالم يتجاهل؟ أم سيصحو من غفوته لينقذ ما تبقى من أمل في أفق مظلم؟
الصورة الوحيدة التي تظل باقية، هي صورة أوميرا في بركة الموت، وصورة أحمد منصور الذي يبتلع ألمه كما تبتلع النيران جسده، وتظل الإنسانية تتساءل: متى سيتوقف هذا؟