في لحظة يختلط فيها الحذر بالتصعيد، والخط الأحمر بالدبلوماسية الرمادية، تتجه أنظار العالم إلى سلطنة عُمان، حيث تُصاغ بلغة المساومات ملامح صفقة كبرى بين واشنطن وطهران. لم تعد المسألة مجرد تخصيب نووي أو مفاعلات تحت الأرض، بل مواجهة مكشوفة بين منطق السيطرة ومنطق البقاء، بين أميركا التي تبحث عن نصر سياسي بدون حرب، وإيران التي تريد رفع الخناق دون تقديم التنازلات التي تمس جوهر مشروعها الإقليمي.
إنها مفاوضات برائحة البارود، تدور فوق طاولة من زجاج هشّ، تكفي فيها كلمة، أو شرط، أو إيماءة، لتعيد كل شيء إلى نقطة الصفر. لا ضمانات، لا ثقة، ولا تحالفات ثابتة… فقط حسابات مصالح، وتوازنات مؤقتة، وساعات مفصلية قد تعيد رسم الخريطة من جديد.
فهل يُولد الاتفاق من رحم التصعيد؟ أم تُدفن الدبلوماسية تحت ركام الطموحات المتضادة؟
التحول من دييغو غارسيا إلى مسقط ليس فقط انتقالاً جغرافياً، بل استدارة سياسية كبرى من منطق الحرب إلى منطق المفاوضة. السلطنة التي حافظت على سياسة “الحياد النشط”، باتت مرة أخرى مركز الثقل في ملف دولي متفجر، بفضل قدرتها على مخاطبة الجميع دون استفزاز أحد. وبدلاً من الغارات، ستكون المراسلات العمانية هي القناة التي تُعاد عبرها صياغة الحسابات الكبرى.
كل المؤشرات تُرجّح أن الاتفاق المنتظر سيكون إعادة تدوير لاتفاق 2015، لكن بصيغة تُرضي الطرفين: السماح لإيران بمواصلة تخصيب اليورانيوم ضمن سقف منخفض وتحت رقابة صارمة من الوكالة الدولية، مقابل تخفيف تدريجي للعقوبات. ترامب، الذي سبق ووصف الاتفاق السابق بأنه “كارثي”، قد يجد في هذا السيناريو فرصة لتقديم اتفاق “سلمي وموثّق” يُسوقه كإنجاز تفاوضي.
لكن في الكواليس، تدور معركة أخرى… بين واشنطن وتل أبيب.
إسرائيل ترى أن أي اتفاق لا يُفكك البرنامج الإيراني بالكامل هو تهديد وجودي. وهي تضغط – عبر حلفائها في واشنطن – لإدراج ملف الصواريخ والنفوذ الإقليمي ضمن الصفقة. لكن هذا الضغط قد يرتد سلباً، إذ تعتبر طهران هذه القضايا “خطاً أحمر” ضمن أمنها القومي، وترى أن أي تفاوض خارج النووي الآن هو محاولة لتفريغ قوتها دون مقابل.
إلى جانب الملف النووي، هناك حديث متزايد عن نية واشنطن توسيع التفاوض ليشمل ملف الصواريخ البالستية وشبكة وكلاء إيران في المنطقة. هذه الملفات تشكل جوهر الاستراتيجية الإيرانية للردع والنفوذ، وتفتح الباب أمام صراع إرادات أوسع من مجرد عدد أجهزة الطرد المركزي.
بحسب علي واعظ، مدير مشروع إيران في “مجموعة الأزمات الدولية”، فإن فتح هذه الجبهات دفعة واحدة قد يفجّر المفاوضات، لأن الإيرانيين يرغبون أولاً برفع العقوبات قبل النقاش حول دورهم الإقليمي. وهو ما يتطلب براغماتية أميركية لم تظهر بالكامل بعد.
الانفتاح الإيراني على التفاوض لا ينفصل عن الواقع الداخلي المتدهور اقتصادياً، مع ضغط اجتماعي متزايد واقتراب استحقاقات سياسية مفصلية. من الجهة الأخرى، تراهن واشنطن على أن هذا الضغط كافٍ لانتزاع تنازلات، لكن طهران تراهن على طول النفس وتعدد الأوراق الإقليمية.
ورغم الطابع الثنائي للمفاوضات، إلا أن طهران وواشنطن تدركان أن أي اتفاق لا بد أن يراعي مصالح روسيا والصين. بكين التي تعتمد على الطاقة الإيرانية، وموسكو التي تملك أوراق ضغط على طهران في ملفات أخرى، ستكونان حاضرتين “بالظل”، إما كضامن أو كمُعطّل، بحسب مسار المفاوضات.
ما يجري في مسقط ليس حوار نوايا، بل مفاوضات الضرورة. كل طرف يدخلها مثقلاً بالخسائر، ومحمّلاً بالشروط، ومرتهناً لحسابات داخلية وإقليمية ودولية.
الصفقة إن تمت، ستكون اتفاقًا هشًا، لكنه يفتح نافذة لالتقاط الأنفاس في منطقة لم تعرف الهدوء منذ عقود.
وإن فشلت، فالمنطقة مقبلة على تصعيد غير تقليدي، قد لا يكون محدوداً كما في السابق.