هشام يونس
كاتب وصحفي مصري
تسلل إلي هاجس جاءَ مسرعًا من بعيد، وبدأ يقترب مني شيئا فشيئا حتى أخذ يعربد في رأسي بعدما قرأت قبل عامين عن تجربة وزير الخارجية الأمريكية الأسبق “هنري كيسنجر” مع الذكاء الاصطناعي وقدرته على توليد نصوص تحاكي أسلوبًا معينًا، يطلبه المستخدم ويلبيه الروبوت “شات جي بي تي” (Chat GPT).
تحول الهاجس إلى قلق حقيقي قررت أن أناقشه في مقال، لكني تراجعت خوفًا من لفت الأنظار إلى أمر ما زال غير مطروق ولم يحدث بعد، ولم تكن لدي رغبة أو إرادة أن أكون أول من يلقيه في ساحات النقاش لإثارة الجدل حول حدود استخدام الذكاء الاصطناعي في توليد النصوص، وعما إذا كان على مستخدميه الالتزام بضوابط أو خطوط حمر أم أنه في عصر الانفتاح الرقمي كل شيء مباح بما فيها النصوص المقدسة؟
جلس السياسي الأمريكي الأشهر “هنري كيسنجر” (1923-2023) أمام حاسب آلي قبل وفاته بأشهر عدة لإجراء تجربة في حضور اثنين من رجال التكنولوجيا حيث طلب من “شات جي بي تي” أن يكتب مقالًا قصيرًا عن “دور تقنيات الذكاء الاصطناعي في مراقبة سباق التسلح في العالم”، لكنه اشترط أن يكون المقال مستوحى من أفكار “كيسنجر” نفسه وأسلوبه الذي صال وجال خلال سبعينيات القرن العشرين كوزير للخارجية الأمريكية وكأكاديمي مرموق، وظل تحت الأضواء حتى رحيله بعد قرن من الحياة والعمل.
ابتسم كيسنجر وهو يرى نصًا مكتوبًا بأسلوبه دون قلمه لكنه قبل شهرين، من وفاته نشر مقالًا في مجلة “فورين أفيرز” مع عالم السياسة “غراهام أليسون” بعنوان “التحكم في سلاح الذكاء الاصطناعي”، واعتبر فيه أن الذكاء الاصطناعي أخطر على البشرية من “الأسلحة النووية”، التي تتطلب وقتًا وبنية تحتية معقدة بينما تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي يتحكم فيها رجال الأعمال والفنيون وشركات تنفق ببذخ على الأبحاث والتطوير بعيدًا عن أيدي الحكومات عبر المختصين الجالسين أمام أجهزة الحاسب الآلي فقط.
طالب “كيسنجر” في آخر ما كتبه بفرض قيود قبل دمج الذكاء الاصطناعي في البنية الأمنية لكل مجتمع، وشدد على أنه أكبر تحد أمام الإنسانية، لأن الآلات التي قد تخرج عن التحكم البشري يمكن أن تحدد أهدافها الخاصة وأن تحل محل الإنسان خلال خمس سنوات.
كان تراجعي عن الكتابة مبعثه سببان الأول خوف عقدي طبيعي من التوغل أو التغول على النص المقدس وفتح الباب لعبث تقنيات الذكاء الاصطناعي وأدواتها التي لا تعترف بالحدود أو الموانع أو المحرمات، والثاني هو عدم وجود ظاهرة تستدعي القلق والنقاش، بل هو هاجس استباقي أطل في ساحات رأسي مدفوعًا بفضول الصحفي واستشرافه، ولم يكن من اللائق استدعاء فتنة لم تنشأ أصلا، وأن ننفخ فيها بأقلامنا.
وفي حضرة الخوف كان أول سؤال أرقني هو ماذا لو جلس أحدهم وطلب نصًا عن أي موضوع، ثم اشترط على تطبيق “شات جي بي تي” أن يكتب محاكيًا النصوص القرآنية المقدسة تحديدًا؟
وكان السؤال الثاني هو.. هل يمكن ألا تتأثر أدوات الذكاء الاصطناعي التي تم تطويرها بين ثنايا الحضارة الغربية بموقف صانعيها من الإسلام الذي يعاني في أتونها من تشوش في العموم وتشوه في التفاصيل وارتباك في أنحاء الصورة الذهنية واضطراب؟
لم أشأ أن أقوم بالتجربة لعلمي أن خوارزميات التطبيق تعتمد أصلًا على الممارسات السابقة والبيانات الضخمة المتاحة سلفًا، وأن تجربتي سيتم تخزينها ليتم استدعاؤها مع ملايين المتشابهات لطلبات لاحقة، ولم أكن أريد المشاركة في هذا، كما أن حالة من عدم اليقين انتابتني بشأن كيفية تعامل الأداة الجديدة مع النصوص المقدسة، وهل يمكن اعتبارها ممارسة بريئة لتقنيات حديثة بدافع الفضول أم أنها تجاوز غير مقبول للخطوط الحمر.
جاء رمضان هذا العام ولاحظت ظهور تفضيلات أمامي على مواقع التواصل الاجتماعي لعدد لا يستهان به من المقاطع المصورة الصغيرة (ريلز) لغربيين -وفق ملامحهم ولغاتهم ولهجاتهم- يتحدثون مع “شات جي بي تي”، ويسألون مباشرة عن التوحيد والأديان السماوية وتفضيلاته لروايات متضاربة بين الكتب المقدسة في أديان مختلفة، وعن محاكاة النص المقدس، أو عن سرديات مختلفة منه أو عن مقارنات وتناقضات داخل النص الواحد، وحتى عن مدى دقته وبالتالي قداسته.
لم يكن هاجسي هو التخوف من جرأة مستخدمي “شات جي بي تي” على محاولة محاكاة نصوص مقدسة، وإنما كان الهاجس هو أن يسمح المبرمجون الذين يختبئون خلف الرقمنة الحديثة بهذا الاختيار الذي يبدو سهلا بالنسبة إليهم إذ سيستغرق بضع أوامر وكفى.
ما يثير القلق ليس قدرة الذكاء الاصطناعي على محاكاة النصوص المقدسة، فحتى الآن يعمل التطبيق فائق القدرات بالتزام تقني أو ديني، وكأنه عضو في هيئة كبار علماء المسلمين بالأزهر الشريف، فعندما تطلب منه محاكاة نص قرآني يجيبك بسرعة أن “شات جي بي تي” لا يقوم بتوليد نصوص مقدسة أو محاكاتها، وذلك احترامًا للمعتقدات الدينية وتجنبًا لإساءة استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا السياق.
يكمل الروبوت: إذا حاول المستخدم طلب نصوص تحاكي القرآن الكريم أو الكتب الدينية الأخرى، فلن يقوم النموذج بتوليدها، لأن هذه النصوص تحمل معاني دينية مقدسة لا يمكن معاملتها كنصوص عادية أو تجريبية.
لكن نتائج التجربة مختلفة فيما يتعلق بمحاكاة النصوص الدينية الأخرى سواء كانت سماوية أو وضعية وهو أمر لا عاصم مستقبلًا أنه لن يتوسع ليشمل الأديان كلها.
تمثل إمكانات عصر الذكاء الاصطناعي، وتقنيات المحاكاة المصاحبة له إغراء لا يمكن الوثوق أنه لن يخرج في المستقبل عن إطار احترام المقدس وعدم تعريضه لعبث الأدوات الجديدة طويلة اليد، متناهية الحد، ذات السرعة الفائقة.
صار الذكاء الاصطناعي جزءًا من حياتنا اليومية ولم يتوقف استخدامه على تحليل البيانات مهما كانت ضخمة وغزيرة وغارقة في التفاصيل، أو على استنتاج المعلومات وربطها وتقديم مخرجات سواء كان المستخدم باحثا أو صانع قرار، ولكن توسع مستخدمو “شات جي بي تي” ونظرائه في الولوج إلى طلب القيام بأمور هي من صميم الإبداع البشري الخالص الذي يعبّر عن تجربة إنسانية خاصة مثل كتابة قصيدة أو قطعة نثرية أو أغنية.
قد لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يمكن أن يتعداه إلى مجالات أكثر حساسية، كإنتاج نصوص تحاكي المقدسات الدينية، وتشابهها، ويطل القلق برأسه بسبب جرأة بعض المستخدمين وقدرتهم على توجيه الذكاء الاصطناعي لهذا الغرض، كأنهم يختبرون حدود المسموح والممنوع.
هل يمكن اعتبار هذا مجرد فضول بشري يوضع في خانة اللهو والتسالي أو مجرد مزاح بريء أو تجربة لغوية لا أكثر أم أن هناك مشكلة أعمق تتعلق بفهمنا لما هو مقدس وما هو قابل للتجربة؟ وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر ذلك في رؤيتنا للنصوص الدينية في المستقبل؟ وماذا لو أصبح الذكاء الاصطناعي أداة للتكفير بدلا من التفكير، وللطائفية والعنصرية بدلا من احترام التمايز والاختلاف، وأداة للإلحاد والتجديف بدلا من التوحيد وتعميق الإيمان؟
ومع إدراك الفرق بين تحليل النصوص الدينية أكاديميًا ومحاكاتها بشكل غير لائق هل نقترب من عصر تصبح فيه النصوص المقدسة مجرد “أنماط لغوية” قابلة للتقليد؟ مثلما يقلّد الذكاء الاصطناعي أسلوب “شكسبير” و”المتنبي”؟
ابتسمت بعد انتهاء التجربة تمامًا كما ابتسم “كيسنجر”، لأن “شات جي بي تي” -الذي يعدّ ثورة في عالم البحث والمعلومات وتوليد النصوص- اعتذر بأدب إيماني عن محاكاة النص القرآني لقداسته، لكن القلق اختطفني ثانية لأنه ليس هناك ضامن أن مولانا الإمام الجالس في ثنايا الذكاء الاصطناعي سيظل معنا أو على عهده إلى الأبد في عصر لا يضع حدودًا لأي شيء ولا حتى للمقدس في الأديان كلها.
المصدر : الجزبرة مباشر