أحمد شيخو
يشهد منطقة الشرق الأوسط تغيرات مهمة في الأبعاد الاستراتيجية السياسية والاقتصادية والثقافية، ستكون لها تداعيات على النظام الإقليمي والعالمي وعلى وضع الشعوب والنظم والبنى الاجتماعية الموجودة منذ حوالي مئة عام.
نستطيع أن نعتبر أن انهيار النظام في سوريا نقطة مفصلية في حياة شعوب ودول المنطقة، وهو انهيار للاتفاقية الدولية “سايكس بيكو – سزانوف”، وهو بمثابة حدث تاريخي ويأتي كامتداد لجملة من التغيرات التي بدأت منذ الحرب الخليجية الثانية، ثم سقوط صدام حسين وصولا إلى العقد والسنة الأخير من الأحداث الحالية.
تحاول منظومة الهيمنة والنهب العالمية أن ترتب أدواتها من جديد وتستدرك الانطلاقات المجتمعية والتحركات الشعبية أمام قوى الاستبداد للدولة القومية العلمانية والدينية، لكي لا تظهر بدائل مجتمعية ديمقراطية تجذب الشعوب وتكون بديلة للأدوات الدولتية السلطوية الأحادية التي تحاول ترتيبها من جديد.
ما من شك أن ما تعانيه شعوبنا ومجتمعاتنا اليوم هو حصيلة ونتيجة لتراكم منظومات الفساد والنهب وغياب الديمقراطية، ووجود العقليات الأحادية والممارسات السلطوية الاستبدادية لما صدره لنا النظام العالمي لتثبيت أركانه في العالم، إضافة إلى تبلور المدنية المركزية المتجذرة في الشرق الأوسط في حياتنا السلوكية والعقائدية والروحية بشكل يخدم عملية العقم والأبتعاد عن التقاليد والقيم الديمقراطية والمجتمعية.
من أسقط النظام السوري (بريطانيا، إسرائيل، وأمريكا) يريد ويعلم أن تداعياتها ستكون ملموسة في الصراعات والتنافسات التي ستنتج بين القوى الإقليمية التي ستتنافس وتتصارع على الفراغ المراد حدوثه، ولكنهم ربما أرادوا خلق ظروف وشروط يستطيعون بها الذهاب إلى مستويات من التوتر والفوضى للبدء ببناء مشهد إقليمي وعالمي جديد. ولعل ما حدث في أوكرانيا وغرب آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا يعطي مؤشرات لذلك التحليل والرصد.
رغم الدور التركي الحالي في سوريا والشرق الأوسط، إلا أنه دور أداتي وخادم للقوى الأساسية الثلاثة التي ترغب في بناء أوضاع جيوسياسية جديدة. ونعتقد أن ما حدث في سوريا يكمل الاتفاقات الإبراهيمية التي تمت بين الدول العربية وإسرائيل، وهي الاتفاقات التي تعتبر بداية لترسيخ نموذج جديد للشرق الأوسط، وبقوى إقليمية جديدة، إضافة إلى التحركات المضافة مثل “ممر بايدن” من الهند إلى أوروبا وكذلك الاتفاقات والمنتديات الخاصة بموضوع الطاقة في شرق المتوسط، وما حصل ويحصل في غزة ولبنان وسوريا وعموم المنطقة.
تعتقد تركيا، ومعها إيران إلى حد كبير، أن التغيرات الحاصلة في دول المنطقة هي تمهيد وبداية للتدخل في نظامها وشؤونها الداخلية، وفرض ظروف وشروط وربما تطبيق نظم اقتصادية وسياسية جديدة عليها، وحتى التدخل العسكري فيها إن هي لم تستجب لمتطلبات النظام العالمي لإجراء بعض التغيرات في نموذج الدولة القومية في المشهد الراهن والمستقبلي لتعزيز الهيمنة للقوى المركزية في النظام الدولي.
لماذا تدخلت إيران في دول الشرق الأوسط بعد ما تم السيطرة وفرض النظام الإسلاموي (ولاية الفقيه) في إيران؟ ولماذا تدخلت وتتدخل تركيا في دول المنطقة بعد وصول التيار الإخواني السياسي إلى حكم تركيا بوصول حزب العدالة والتنمية؟ ولماذا تحاول إسرائيل التوسع بعد الحكومة اليمنية المتشددة؟ نعتقد أن الأداء الديني السياسي يعتبر نفسه فوق البشر والإنسانية والقوانين الدولية، ويجد، بل يخلق، لنفسه المبرر بإعادة استعباد الآخرين والتحكم في حياتهم وتشكيلها وفق الرؤية الأحادية التي يؤمنون بها ويعملون لأجلها. وهم في الأساس ما هم إلا أدوات ودماء طازجة للنظام الدولتي السلطوي الذي يظهر منتصرا في كل ثورة عبر الثورة المضادة التي سادت تاريخ الشرق الأوسط وحتى العالم، لتحافظ في كل مرة على نموذج الدولة القومية وأدواتها من القمع والهيمنة الفكرية والاستغلال الاقتصادي، لتكون صراعات الأدوات هذه على النفوذ وتقاسم الحصة مقابل خدمتهم للمنظومة الدولية وتسهيل مشاريعها.
في غالبية مجتمعاتنا الشرقية ودولنا، نعتقد بوجود ثلاث تيارات وتوجهات مجتمعية وسياسية وثقافية أساسية، وهي:
التيار والتوجه الديني.
التيار والتوجه القومي.
التيار والتوجه المجتمعي الديمقراطي.
وتظل الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية بين هذه التوجهات والتيارات السياسية التي ما برحت تكرر نفسها، وخاصة الأول والثاني، في صيغ وأشكال مختلفة لم تنتج سوى الخراب والدمار والفساد والتبعية للنظام العالمي المهيمن. في حين تم تحجيم التيار والتوجه الثالث بشكل دائم لأن نظام الدولة القومية وتياراتها السياسية، منذ القرن السادس عشر في أوروبا ومنذ القرنيين الآخرين في الشرق الأوسط، يرى أن مصلحته كسلطة ودولة في تحجيم دور المجتمع وتضييق مساحة العمل والتعبير والحرية للمجتمع.
لأن الأحادية والذكورية، التي تعتبر خاصيات مهمة وميزات تعبيرية وسلوكية للتيارات الدينية والقومية، تريد تنميط المجتمع وقطعنته وزيادة الأنانية لدى الأفراد وفصلهم عن مجتمعاتنا عبر ما تم تصديره من المفاهيم الليبرالية عن حرية الفرد والمرأة البعيدة عن الأبعاد المجتمعية والأخلاقية والسياسية التي يتميز بها تيار المجتمع الديمقراطي الذي يعبر عن المجتمع المنظم والواعي والجامع لكل الاختلافات الإثنية والدينية والمذهبية والجنسية في إطار من التكامل الحياتي المنظم الطوعي.
يعتبر نداء السلام والمجتمع الديمقراطي للمفكر وللقائد عبدالله أوجلان، في 27 شباط/فبراير، مداخلة شجاعة في سياق المشهد الإقليمي والدولي لتقديم رؤية مختلفة في حل القضايا العالقة وتقديم البديل الديمقراطي والحلول السلمية والسياسية لبناء الحياة الحرة لشعوب المنطقة، باحترام الهويات وحرية الفكر والتنظيم الديمقراطي والبناء الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي وبالاعتماد على عودة التحالفات والعلاقات التاريخية الأخوية بين الشعوب بعيدا عن تباينات وصراعات ورغبات الدولة والسلطة ونماذجها الأحادية وإباداتها للمجتمع والشعوب الأصيلة ومشتقات الفكر الاستشراقي والمعادلات الإلغائية.
وعليه، فإن صراعات وتنافسات القوى الإقليمية وكذلك صراعات مراكز القوى في النظام العالمي المستمرة إلى اليوم، لا تقدم الحلول الجذرية لقضايا شعوبنا ومجتمعاتنا، بل إن هذه الاحتكاكات هي لأجل تقاسم النفوذ والكعكة، وغالبها مفتعلة من قبل القوى العالمية التي تتدخل في أحداث المنطقة وتحركات شعوبها، لتعمل على تهيئة الأجواء والظروف من جديد بعد المعطيات الجديدة وتقدم العلوم وتبدل أولويات الشعوب، لتكون لها الصدارة، وتكون الترتيبات الجديدة تحت سيطرتها وتعطي لأدواتها الوظائف الجديدة بعيدا عن أولويات ومصالح الشعوب والمجتمعات.
وهنا تظهر أهمية نداء السلام والمجتمع الديمقراطي أو الخط الثالث بريادة المرأة والشباب، ليكون البديل المجتمعي المنظم عن مشاريع الهيمنة الإقليمية والعالمية والقادر على حل القضايا، بتحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة في الشرق الأوسط، لكل التكوينات والشعوب والمجتمعات والخصوصيات.