في خطوة اعتبرها البعض استحقاقا تاريخيا لمدينة عانت لعقود من الإهمال والتهميش، بينما رأى فيها آخرون بعدا سياسيا يخدم أجندات إقليمية، شهد العراق مؤخرا تصويت البرلمان على تحويل قضاء حلبجة إلى المحافظة التاسعة عشرة في البلاد.
جاء هذا القرار بعد سنوات من المماطلات السياسية والخلافات بين الحكومة الاتحادية في بغداد وحكومة إقليم كردستان، ليفتح الباب أمام سجال واسع يتجاوز الجوانب الإدارية إلى صميم التوازنات السياسية في العراق ما بعد داعش.
من مأساة الإبادة إلى مطالب الاعتراف
تعود جذور الجدل الحالي إلى التاريخ الدامي لمدينة حلبجة التي شهدت واحدة من أبشع جرائم الحرب في القرن العشرين. في 16 آذار/مارس 1988، شن نظام صدام حسين هجوما كيميائيا على المدينة باستخدام غازي الخردل والسارين، أودى بحياة ما بين 3200 إلى 5000 مدني خلال ساعات، مع إصابة عشرات الآلاف بآثار صحية مزمنة لا تزال قائمة حتى اليوم.
وأصبحت هذه الحادثة رمزا عالميا لجرائم الحرب، حيث اعتبرتها المحكمة الجنائية العراقية العليا “إبادة جماعية” بحق الشعب الكردي.
الإرث الثقيل للهجوم الكيميائي
لا يزال 43% من سكان حلبجة يعانون من أمراض تنفسية مزمنة، بينما تصل نسبة المصابين بسرطان الرئة إلى 28%، وفقا لدراسات منظمة الصحة العالمية.
هذه الأوضاع الصحية الكارثية، مقترنة بضعف البنية التحتية وندرة الخدمات الأساسية، شكلت دافعا رئيسيا لمطالب السكان بتحويل المدينة إلى محافظة مستقلة. يقول الناشط المحلي ناصح عبد الرحيم: “كنا نعيش في ظل إهمال ممنهج، فالميزانيات المخصصة للقضاء لم تكن تكفي لمعالجة آثار الكارثة”.
من المطالب المحلية إلى الصراع المركزي
بدأت المحاولات الجادة لتحويل حلبجة إلى محافظة عام 2013، عندما أقرت حكومة إقليم كردستان قرارا بجعلها المحافظة الرابعة ضمن الإقليم.
لكن هذا القرار بقي حبرا على ورق على المستوى الاتحادي، حيث ظلت حلبجة تدار كقضاء تابع لمحافظة السليمانية.
وفي آذار/مارس 2023، تقدم رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بمشروع قانون إلى البرلمان العراقي لاستحداث المحافظة، واجه معارضة من كتل سياسية شيعية طالبت بضم مناطق أخرى مثل تلعفر إلى الحزمة التشريعية.
الانقسامات السياسية
كشف التصويت الأخير في 14 نيسان/أبريل 2025 عن عمق الانقسامات السياسية، حيث حاولت كتل شيعية عرقلة الجلسة عبر المطالبة بإدراج تعديلات تخدم مصالحها الإقليمية.
وأقر البرلمان العراقي اليوم الإثنين قانونا يقضي بتحويل قضاء حلبجة إلى محافظة مستقلة، لتصبح بذلك المحافظة التاسعة عشرة في البلاد.
جاء هذا القرار التاريخي بعد أيام قليلة من إحياء حلبجة للذكرى السابعة والثلاثين للهجوم الكيميائي المروع الذي تعرضت له المدينة في 16 مارس 1988، والذي أودى بحياة أكثر من 5000 شخص وجرح ما لا يقل عن 10000 آخرين خلال الأيام الأخيرة من الحرب العراقية الإيرانية
يوضح النائب شاخوان عبد الله أن “بعض الأطراف حاولت ربط مصير حلبجة بقضايا أخرى، وكأن الاعتراف بضحايا الإبادة الجماعية يحتاج إلى مقايضة سياسية”.
ونجحت الكتل الكردية والعربية الموالية للحكومة في إقرار القانون بأغلبية 178 صوتا، لكن 56 نائبا قاطعوا الجلسة في إشارة إلى استمرار الخلافات.
صراع الهوية والسلطة
تحول النقاش حول التحويل الإداري إلى ساحة لتصفية الحسابات بين بغداد وأربيل. من جهة، تؤكد الحكومة الاتحادية أن القرار “يعكس التزام الدولة بمعالجة إرث النظام البائد”، بينما يرى مسعود بارزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني أن “المماطلات في تنفيذ القرار تظهر استمرار عقلية التهميش ضد الكرد”.
وأبرز نقاط الخلاف تتعلق بترسيم الحدود الإدارية للمحافظة الجديدة. تنص المادة الثانية من القانون على أن “مجلس وزراء إقليم كردستان يحدد الحدود بالتشاور مع الحكومة الاتحادية”، لكن مصادر برلمانية كشف النقاب عن محاولات من بغداد للتدخل في عملية الترسيم لضمان سيطرة أكبر على المناطق الحدودية مع إيران.
ويعبر عضو البرلمان عن كردستان عمر عنايت عن مخاوفه من أن “التدخلات المركزية قد تحول المحافظة الجديدة إلى كيان هش إداريا”.
ويتوقع الخبراء أن ترفع الميزانية المخصصة للمحافظة الجديدة من 120 مليار دينار عراقي سنويا إلى 450 مليارا، مما سيسمح بتمويل مشاريع كبرى في قطاعات الصحة والتعليم.
لكن اقتصاديون يحذرون من “مخاطر التضخم الإداري”، حيث تشير تقديرات وزارة التخطيط إلى أن تكاليف إنشاء الهيكل الإداري الجديد قد تصل إلى 300 مليون دولار خلال السنوات الثلاث الأولى.
وتكشف بيانات منظمة اليونيسف أن 40% من مدارس حلبجة تعمل بمنشآت مؤقتة، بينما تصل نسبة العاطلين عن العمل إلى 38%.
المخاوف الأمنية
في سياق متصل، أعلنت قوات البيشمركة الكردية عن تعزيزات أمنية على حدود المحافظة الجديدة مع إيران، مخاوف من استغلال الميليشيات المسلحة للوضع الجديد لتهريب الأسلحة هذه الخطوة أثارت انتقادات من نواب شيعة وصفوها ب”التوسع غير المبرر للنفوذ الكردي”.
حلبجة بين مطرقة التاريخ وسندان السياسة
رغم الإجماع الظاهري على الأهمية الرمزية لتحويل حلبجة إلى محافظة، يبقى السؤال الأكبر: هل سيكون هذا القرار بداية لمرحلة جديدة من العدالة والتعويض، أم مجرد ورقة في صراع السلطة بين المركز والإقليم؟ الإجابة قد تحددها قدرة الحكومة العراقية على تحويل الخطاب السياسي إلى إنجازات ملموسة على الأرض، في اختبار حقيقي لإرادة الإصلاح بعد عقود من الصراعات. كما يقول المفكر الكردي شوان قدري: “الاعتراف الإداري يجب أن يرافقه اعتراف إنساني بحق الضحايا في العيش بكرامة، وإلا سيظل الحبر على الورق”