في زمن تعكّرت فيه المقاييس، وتحوّل فيه الثابت إلى متحوّل، والمقاوم إلى مدان، والمحتل إلى صاحب حق، يبرز المشهد الأردني اليوم كواحد من أبرز المرايا العاكسة لانقلاب المعايير السياسية والأخلاقية في المنطقة.
لم تعد القضية الفلسطينية، التي طالما شكّلت وجدان الشارع العربي والأردني على وجه الخصوص، بمنأى عن المساومة أو التشكيك في شرعيتها، بل بات التفاعل الشعبي مع نداءات نصرتها يجرّ وراءه تهمًا أمنية تُرسم على مقاسات «التآمر» و«زعزعة الاستقرار».

في الأيام الأخيرة، ألقت السلطات الأردنية القبض على مجموعة مكوّنة من 16 شخصًا، متهمة إياهم بتشكيل «خلية سرية» تصنّع صواريخ وطائرات مسيرة، بغرض استخدامها «لأغراض غير مشروعة».
وقد تبع الإعلان مؤتمر صحفي لوزير الإعلام الأردني أشار فيه صراحة إلى تورط محتمل لجماعة الإخوان المسلمين في هذا «المخطط». لكن الجماعة، من جهتها، نفت بشدة أي علاقة لها بالمعتقلين، مؤكدة أنهم تصرفوا من تلقاء أنفسهم، بدافع دعم المقاومة الفلسطينية.
هذا الحدث أثار جدلاً واسعًا داخل الأردن وخارجه. فمن منظور سياسي، يطرح تساؤلات جوهرية: هل أصبح دعم المقاومة الفلسطينية، حتى ولو بالوسائل الفردية، جريمة؟ وما هو موقع الأردن الحقيقي في خارطة الصراع العربي-الإسرائيلي اليوم؟
من الناحية الدستورية، يعرّف الأردن نفسه كدولة تقف إلى جانب حقوق الشعب الفلسطيني، وترفض التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي إلا ضمن حل شامل.
لكن من الناحية العملية، نجد أن هناك فجوة آخذة في الاتساع بين الخطاب الرسمي والممارسة الأمنية. إذ بات الأمن الأردني ينظر بعين الشك إلى أي نشاط يتجاوز إطار الخطابات العاطفية تجاه فلسطين، ويقترب من حيز الفعل والتنظيم.
هذه الفجوة، ليست وليدة اللحظة، بل تراكمت منذ توقيع اتفاقية وادي عربة عام 1994، والتي وضعت العلاقات الأردنية-الإسرائيلية على مسار تطبيعي معلن، مقابل ترتيبات أمنية واقتصادية.
ومع تنامي التحالفات الإقليمية الجديدة، لا سيما اتفاقيات «أبراهام»، وجد الأردن نفسه محاصرًا بين ضغوط الشارع الملتزم بفلسطين، وحسابات الأمن الإقليمي الذي لا يريد تصدير أي شكل من أشكال المقاومة المسلحة أو حتى الرمزية.
الملفت، أن السياق الإقليمي يشهد منذ اندلاع حرب غزة الأخيرة في أكتوبر 2023 تصاعدًا في مواقف الشعوب العربية المؤيدة للمقاومة، مقابل تراجع المواقف الرسمية. في اليمن، العراق، ولبنان، كما في بعض العواصم الغربية، خرجت التظاهرات دعمًا لغزة، وظهرت حالات تضامن شعبي غير مسبوقة.
إلا أن الموقف الرسمي الأردني ظل متحفظًا، حريصًا على توازن دقيق لا يُغضب حلفاءه الغربيين من جهة، ولا يشعل فتيل السخط الداخلي من جهة أخرى.
البيان الذي أصدرته «اللجنة التحضيرية للجبهة الوطنية الشعبية الأردنية» كان لافتًا في توقيته ومضمونه، إذ دعا إلى «أقصى درجات الإحساس بالمسؤولية الوطنية»، محذرًا من خطورة «شيطنة المقاومة». وأكد أن مناخات المقاومة وثقافتها لعبت دورًا في ردع العدو الصهيوني، ولا ينبغي خنقها داخليًا.
في السياق ذاته، يجب التساؤل عن المعايير التي يتم على أساسها تصنيف النشاط المقاوم كـ«إرهابي» أو «تخريبي». فهل تمثل صناعة أدوات بدائية – في سياق الاحتلال والعدوان المستمر – تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي الأردني؟ أم أن هذا الخطر هو سياسي الطابع أكثر منه أمني؟
من خلال مراجعة تقارير سابقة صادرة عن منظمات حقوقية أردنية ودولية، يتضح أن مساحات التعبير السياسي تتقلص عامًا بعد عام في الأردن، وأن العمل السياسي السلمي صار يواجه تضييقًا متزايدًا.
التقرير السنوي لـ«هيومن رايتس ووتش» عن الأردن لعام 2024 أشار بوضوح إلى حالات توقيف على خلفية منشورات، أو آراء داعمة للقضية الفلسطينية، وهو ما يُنذر ببيئة غير مواتية للعمل العام.
من جانب آخر، لا يمكن تجاهل تأثير التنسيق الأمني مع إسرائيل والولايات المتحدة في توجيه السياسات الأمنية الأردنية. فرغم أن الأردن لم ينضم رسميًا إلى اتفاقيات أبراهام، إلا أن دوره في تأمين الحدود الغربية والتعاون الأمني ظل محل إشادة دائمة من قبل واشنطن وتل أبيب.
وفي الوقت الذي تتعرض فيه دول مثل لبنان لغارات بسبب دعمها للمقاومة، يُفترض بالأردن أن يقدّم أوراق اعتماده كموقع «معتدل» في المعادلة.
لكن هذه المعادلة نفسها آخذة في التآكل، إذ لم تعد مجدية في ظل تغير المزاج الشعبي العربي، ولا سيما الأردني، الذي يعبّر يوميًا عن دعمه لغزة والمقاومة، سواء عبر وسائل التواصل أو في الشارع.
وقد شهدنا كيف تحوّلت الجامعات والنقابات في الأردن إلى ساحات تضامن مع فلسطين، وهو ما يصعّب على الدولة أن تواصل سياسة الكبح دون خسائر سياسية داخلية.
إن استمرار النظام الأردني في تعامله الأمني مع أي مظاهر دعم للمقاومة سيقوّض صورته داخليًا، ويضعه في خانة مناصري الاحتلال، سواء أراد ذلك أم لا. وهو أمر يحمل تبعات استراتيجية على المدى البعيد، إذ يُفقد النظام أحد أهم مصادر شرعيته: كونه حاميًا للقدس والمقدسات.
لقد بات واضحًا أن الموقف من فلسطين لم يعد فقط معيارًا أخلاقيًا أو قوميًّا، بل أصبح معيارًا للتمايز السياسي داخليًا في المجتمعات العربية. وأي نظام يعادي هذا الموقف، أو يُجرّم حامليه، إنما يعزل نفسه عن شعبه قبل أن يعزلهم عن العالم.
في الختام، لا بد من التأكيد أن دعم المقاومة ليس جريمة، بل هو حق أصيل نابع من القيم الإنسانية والسياسية التي قامت عليها الأمة العربية. ومن المؤسف أن تتحول هذه القيم إلى تهم، في زمن اللا منطق.
إن الرهان الحقيقي لا يجب أن يكون على كتم الأصوات، بل على فتح قنوات الحوار السياسي، وتمكين قوى المجتمع من التعبير السلمي والمشروع عن رؤاها. فالتاريخ علّمنا أن كبت الرأي لا يطفئه، بل يزيده اشتعالاً.
وفي زمن تتغيّر فيه التحالفات وتتشكل خريطة جديدة للمنطقة، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يختار الأردن أن يكون حارسًا لحدود كيانه، أم لحماية أمن إسرائيل؟