تشهد البنوك السويسرية في الآونة الأخيرة إقبالًا متزايدًا من الأثرياء الأمريكيين الذين يسعون إلى حماية ثرواتهم وتنويع محافظهم الاستثمارية بعيدًا عن الولايات المتحدة، في ظل تصاعد المخاوف الاقتصادية والسياسية على الصعيدين المحلي والعالمي.
ويعزو مراقبون هذه الظاهرة، التي يصفها البعض بأنها “نزع الطابع الأمريكي” عن الثروات الخاصة، إلى عدة عوامل متداخلة، أبرزها القلق المتزايد من مستقبل الاقتصاد الأمريكي، وتراجع الثقة بالدولار، إضافة إلى الجاذبية التي توفرها سويسرا من حيث الاستقرار السياسي والاقتصادي والخصوصية المصرفية.
تعد المخاوف المتعلقة بقيمة الدولار من أبرز المحركات وراء هذا التوجه، حيث يتخوف المستثمرون من تأثيرات الدين العام الأمريكي المتضخم والسياسات النقدية المتساهلة على العملة الأمريكية. كما يراقب الأثرياء بقلق ارتفاع معدلات التضخم، وتأثيرها على القوة الشرائية، ما يدفعهم للبحث عن أدوات تحوط فعالة مثل الاستثمار في الفرنك السويسري والذهب.
في الوقت ذاته، تثير تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة مخاوف بشأن أداء الأسواق المالية مستقبلاً، وهو ما يدفع بعض كبار المستثمرين إلى البحث عن أسواق بديلة أكثر استقرارًا.
من جهة أخرى، تلعب التطورات الجيوسياسية دورًا مهمًا في تسريع هذه الهجرة المالية، إذ تُعد النزاعات الدولية والحروب التجارية المتصاعدة مصدر قلق للأثرياء الذين يبحثون عن بيئة أكثر حيادية، مثل تلك التي توفرها سويسرا بسياساتها الخارجية المتوازنة.
ولا تخفى على المتابعين المخاوف المتزايدة من الاستقطاب السياسي والاجتماعي داخل الولايات المتحدة، والذي قد تكون له تبعات على المدى البعيد. كما أن التغيرات المتوقعة في السياسات الضريبية والتنظيمية دفعت بعض الأثرياء إلى نقل أصولهم إلى الخارج، بحثًا عن بيئة ضريبية وتنظيمية أكثر استقرارًا.
ويأتي اختيار سويسرا تحديدًا لاعتبارات عديدة، منها ما يتعلق بسمعتها الطويلة في إدارة الثروات، واستقرار نظامها المالي، وقوة عملتها، إضافة إلى استمرار توفيرها مستوى معينًا من الخصوصية، رغم التعديلات التي طرأت على قوانين السرية المصرفية مؤخرًا.
ويُذكر أن الإجراءات التنظيمية لم تعد تشكل حاجزًا كبيرًا أمام الأثرياء الأمريكيين، حيث تتيح البنوك السويسرية اليوم فتح الحسابات بطريقة أكثر سهولة من السابق، بفضل تعاونها مع السلطات الأمريكية لضمان الالتزام بقوانين الإفصاح، مثل قانون الامتثال الضريبي للحسابات الأجنبية (FATCA). وتعمل شركات إدارة الأصول السويسرية المسجلة لدى لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية على تسهيل هذه العمليات وضمان الامتثال الكامل للقوانين الأمريكية.
وتشير المعطيات إلى أن هذه الموجة من “الهجرة المالية” تعكس فقدانًا تدريجيًا للثقة في مستقبل الاقتصاد الأمريكي لدى بعض الفئات الثرية، فيما تظل سويسرا – بكل ما تمثله من رمزية في عالم المال – وجهة مفضلة لأولئك الذين يسعون إلى تأمين أصولهم في بيئة مستقرة