منذ نكبة عام 1948، يرزح الشعب الفلسطيني تحت احتلال عسكري استيطاني مارست خلاله إسرائيل جميع أشكال الانتهاكات من تهجير وقتل وهدم للمنازل، وفرض لنظام فصل عنصري قائم على القمع والتمييز الممنهج. هذا الاحتلال لم يتوقف عن التوسع والتغول، متجاهلاً قرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني، مما حوّل حياة الفلسطينيين إلى مأساة يومية، لا سيما في قطاع غزة، الذي عانى على مدار سنوات من الحصار الخانق والحروب المتكررة التي أودت بحياة الآلاف من المدنيين ودمّرت البنية التحتية بشكل واسع. وقد جاءت الحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على غزة في السابع من أكتوبر 2023 لتؤكد مجددًا على وحشية الاحتلال وإصراره على استخدام القوة المفرطة ضد المدنيين العزل، مخلفة كارثة إنسانية غير مسبوقة في القطاع المحاصر.
لكن في المقابل، لم تمر هذه الحرب دون أن تترك آثاراً سلبية وعميقة على الداخل الإسرائيلي، خاصة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. فقد دفعت إسرائيل ثمناً باهظاً لهذه الحرب من خزائنها، وألحقت خسائر جسيمة باقتصادها الذي دخل مرحلة من الركود والانكماش، وسط تراجع ثقة المستثمرين وهروب الرساميل وتقلص النشاط التجاري.
خسائر بالجملة
تشير التقديرات إلى أن تكلفة الحرب تجاوزت 14 مليار دولار حتى نهاية عام 2023، بسبب النفقات العسكرية المباشرة، والتعويضات، وتكاليف إعادة تأهيل الجبهة الداخلية. كما أدت الحرب إلى تعطيل عمل أكثر من 50% من الشركات الإسرائيلية، خاصة في جنوب البلاد، وتراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 24% في الربع الأخير من 2023. وبالإضافة إلى ذلك، انخفضت عائدات السياحة بنسبة 80% مقارنة بالعام السابق، فيما ارتفع عجز الموازنة العامة بنسبة كبيرة، مما دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات تقشفية أثارت احتجاجات شعبية واسعة.
تباطؤ النمو
في تقرير صادر عن بنك إسرائيل في يناير 2024، جاء أن “الاقتصاد الإسرائيلي دخل في واحدة من أكثر فترات عدم اليقين منذ عقدين، مع تباطؤ حاد في النمو وارتفاع معدلات البطالة في قطاعات حساسة مثل التكنولوجيا والسياحة”.
ولم تقتصر التداعيات على المؤشرات الاقتصادية فحسب، بل شملت أيضاً قطاع التكنولوجيا المتقدمة، الذي يُعد من أعمدة الاقتصاد الإسرائيلي. فقد شهد هذا القطاع تباطؤاً ملحوظاً في الاستثمارات، وتوقفاً لمشاريع حيوية بسبب الأوضاع الأمنية والضبابية السياسية. كما غادرت شركات ناشئة عدة البلاد، أو نقلت جزءاً من عملياتها إلى الخارج.
أحد المحللين الاقتصاديين في صحيفة هآرتس وصف الوضع قائلاً: “تبدو إسرائيل وكأنها تدفع اليوم فاتورة تجاهلها الطويل لأي حل سياسي حقيقي مع الفلسطينيين، فكل صاروخ يسقط على غزة يرتد على الاقتصاد الإسرائيلي في صورة نزيف بطيء ومتواصل”.
تآكل بنية كيان الاحتلال
إن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة لم تعد مجرد صراع عسكري قصير الأمد، بل تحوّلت إلى نقطة تحول استراتيجية تكشف عن التآكل العميق في بنية الدولة الإسرائيلية. فعلى الرغم من امتلاك إسرائيل لترسانة عسكرية ضخمة ودعم سياسي غربي غير محدود، فإن هذه الحرب كشفت هشاشة منظومتها الأمنية، وفشلها في تحقيق ردع فعّال، أو حسم ميداني، بل زادت من تعقيد الصراع وأظهرت حدود القوة الصلبة في مواجهة مقاومة متجذرة.
اقتصادياً، تمثل الحرب ضربة قاصمة لأسطورة “الاقتصاد المزدهر رغم الحروب”. فالخسائر المباشرة وغير المباشرة، وحالة عدم اليقين، أدت إلى زعزعة ثقة الأسواق وأثقلت كاهل الميزانية. وكلما طال أمد الحرب، زادت الكلفة على الدولة والمجتمع، وازدادت احتمالات الانفجار الاجتماعي الداخلي بسبب الاستقطاب السياسي والغضب الشعبي من إدارة الحرب وسوء توزيع الموارد.
سياسياً، كشفت الحرب عن أزمة قيادة داخل إسرائيل، وانقسامات عميقة بين مختلف التيارات، مع تصاعد الأصوات المعارضة للحرب ورفض السياسات العسكرية الفاشلة. بحسب استطلاع نشره مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، فإن 61% من الإسرائيليين فقدوا الثقة في قدرة الحكومة الحالية على إدارة الحرب وتحقيق الأمن.
أما على المستوى الأخلاقي، فقد بات من الواضح أن كلفة الاحتلال لا تُقاس بالدولار فقط، بل بالتآكل المتواصل في صورة إسرائيل الدولية، وتصاعد الاتهامات بارتكاب جرائم حرب، وتزايد عزلة إسرائيل في المحافل العالمية، حتى بين بعض حلفائها التقليديين. وفي تصريح للمدير التنفيذي لمنظمة هيومن رايتس ووتش، كينيث روث، قال: “يجب ألا يُسمح لإسرائيل باستخدام ذريعة الدفاع عن النفس لتبرير الهجمات العشوائية أو العقاب الجماعي بحق المدنيين في غزة”.
من هنا، فإن استمرار الاحتلال لم يعد خياراً بلا ثمن، بل هو مشروع يتداعى من الداخل، ويعيد طرح السؤال الجوهري: إلى متى يمكن لدولة أن تبني أمنها على حساب حقوق الآخرين، دون أن تتكسر هي أيضاً تحت وطأة هذا الظلم؟