بقلم أحمد عز الدين
هذه رؤوس موضوعات متصلة وليست منفصلة ، متداخلة وليست مستقلة ، متبادلة التأثير وليست مغلقة ، تمثل متونا أكثر من كونها تقدم شروحا :
أولا : بيان الجنرال كوريلا ليس أكثر أهمية أو خطورة من الدور الوظيفي للجنرال كوريلا نفسه ، فهو القائد الميداني الفعلي موقعا وقرارا وإدارة في كافة عمليات وأنماط الحروب فوق أضلاع الشرق الأوسط ، بما في ذلك مراحل الحرب على غزة أو لبنان أو اليمن ، ليس بوصفه المنسق العام بين آلة الحرب الإسرائيلية ، والحشود العسكرية الأمريكية ، فوق تخوم الإقليم ومضائقه وبحاره وممراته الإستراتيجية ، ولكن باعتباره صاحب قرار التصديق على كافة الخطط والعمليات العسكرية في فضائه وباعتباره المسئول عن ملأ المساحات الفارغة في هذه الخطط فوق مسارح العمليات ، واستدعاء ما تتطلبه من قوة عسكرية أمريكية بأسلحتها ومصادر نيرانها ، جنبا إلى جنب مع إعادة ملأ المخازن الإسرائيلية دون توقف بمعدلات عالية من الأسلحة والذخائر ، فضلا عن إنشاء دفاع جوي عميق ومتعدد الطبقات لإسرائيل ، يمتد من العراق إلى الأردن وأجزاء من سوريا وفضاء فلسطين .
إن ذلك إنما يعني في دلالته المباشرة أننا أمام حرب أمريكية بالدرجة الأولى ، ولك أن تلاحظ أنه خلال يوم واحد من عمليات قصف جنوب لبنان وقواعد حزب الله ، كان عدد الغارات الجوية 1200 غارة ، بينما لا يمتلك سلاح الجو الإسرائيلي القدرة عمليا على تنفيذ أكثر من 35% من أعداد هذه الغارات في الحد الأقصى ، أي أن سلاح الجو الأمريكي تكفل بما نسبته 65% منها في الحد الأدنى .
ثانيا : يبدو بالعين المجردة أن المنحنى البياني للحشد العسكري الأمريكي كميا ونوعيا في المنطقة لم يتوقف عن الارتفاع بمعدلات كبيرة ، تفوق مستوى التهديد من منظور عسكري خالص ، فضلا عن أنها أعلى من منسوب إعادة ترميم نظرية للردع .
لقد بدأ الأمر بنشر مقاتلات A16 في الأردن ، وسرب F35 في السعودية ، وخلال أسبوعين وصلت إلى المنطقة 85 رحلة لطائرات النقل العسكرية الأمريكية الثقيلة ، وطائرات النقل التكتيكي ، ونحو 10 طائرات تزود بالوقود في الجو ، وطائرة استطلاع إضافة إلى 6 طائرات من طراز B2 و8 قاذفات إستراتيجية من طراز B52 -11 ، ثم تم إخلاء أعداد من وحدات صواريخ الدفاع الجوي الأمريكية من الولايات المتحدة ومن أوربا ومن كوريا الجنوبية ومن السعودية ونشر بعضها في إسرائيل وبعضها في مواقع أخرى ( 2 منصات ثاد – 8 باترويت – 4 حيتس ) إضافة إلى استدعاء حاملة الطائرات كارل فينسن الخاصة بالعمليات الخاصة ومجموعاتها القتالية ، الخ
وباختصار فقد تم نقل الأصول العسكرية الأمريكية الضاربة إلى مسرح العمليات في الشرق الأوسط ، وبنسبة تكاد أن تصل إلى 50% من القوة الإستراتيجية الأمريكية ، وهو أمر كما قلت يفوق مستوى التهديد المباشر أو حائط الردع المؤقت.
ثالثا : سيكون ضربا من الإيمان بالأساطير أن يتم بناء تقدير موقف على أساس أن حشد 50% من القوة الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط هدفه تدمير اليمن أو كسر إرادته أو حتى احتلاله ، فضلا عن أن ذلك لن يكون إلا من قبيل التلاعب بالعقول حد الإهانة .
مع ذلك فإن هذا الحشد الأمريكي الثقيل استخدم أقوى ما لديه من أسلحة ، وأحدث ما في ترسانته التكنولوجية ، وبمستوى غير مسبوق للقوة وبأقصى درجات تكثيف النيران ، فقد استخدم كامل ما لدى الولايات المتحدة من القاذفات الثقيلة والإستراتيجية ، وأجيال جديدة من صواريخ التوماهوك المشحونة برؤوس حربية مغناطيسية ، إضافة إلى أسلحة الطاقة العالية والموجهة بالليزر ، والأسلحة الكهرومغناطيسية ونيران حاملتي طائرات ثم لم يجد بديلا بعد فشله في تحقيق أهدافه المباشرة سوى ضرب المنشآت الحيوية النفطية كميناء رأس عيسى والمناطق المدنية الآهلة بالسكان في صنعاء والحديدة وغيرهما ، فقد فشلت البحرية الأمريكية في معركتها ، حتى قبل أن ينفذ رصيدها من صواريخ توماهوك ، ولم تنجح القاذفات الإستراتيجية بقنابل (بونكرباستر) في ملامسة جدار مجمع واحد للصواريخ أرض/ أرض باليستية أو فرط صوتية ، رغم أن الأهداف التي تم قصفها قد شملت أكثر من 350 هدفا وبمعدل يقترب من غارة كل ساعة واحدة .
إن اليمنيين يصنعون صواريخهم بأيديهم حسب تأكيد ترمب نفسه ، وهم أقوياء جدا حسب إقراره أيضا ، لكن المعركة في مواجهة اليمن لا تخص اندفاعة أمريكية للاستحواذ على باب المندب فحسب ، ولكنها موصولة بأبعاد جيواستراتيجية واسعة ، لا تطول بحر العرب وحده ولا هرمز ولا قناة السويس ، ولا شبه جزيرة سيناء فحسب ، ولكنها تطول القرن الأفريقي كله ، وحتى شرق السودان ، إضافة إلى المحيط الهندي نفسه ، ولذلك فإننا أمام حرب مفتوحة تقع في قلب إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في الإقليم ، وفيما وراء الإقليم ، ولا سبيل إلى إغلاقها لا بالدبلوماسية ولا بالقوة المسلحة .
رابعا : ربما على هؤلاء الذين يرتدون قبعات أكبر من رؤوسهم ، وقد حاولوا على امتداد شهور أن يقنعوا جمهورا عريضا مع دخول القوات الإسرائيلية إلى محور فيلادلفيا أن هذه القوات جاءت لتلتقط بعض الصور التذكارية ، أن يتراجعوا إلى الخلف ، ولا أريد أن أضيف فوق ذلك .
وربما أيضا على هؤلاء الذين حمّلوا طوفان الأقصى مسئولية إشعال حريق كبير في الإقليم ، أن يشعروا بالخجل بعد ظهور وثائق إسرائيلية عبّرت عنها ( كان العبرية ) بوجود خطة عسكرية إسرائيلية لاحتلال غزة سابقة الإعداد وجاهزة للتنفيذ ، وأن طوفان الأقصى لم يكن أكثر من تعبير مباشر عن محاولة جسورة لإجهاضها ، والواقع المباشر كما تؤكده (كان) أن الجيش الإسرائيلي اضطر إلى إحداث تغيير شامل في خططه العسكرية وهو ما أدى إلى تأخير تدخل القوات البرية الإسرائيلية وإلى إطالة أمد الحرب .
ما أريد أن أقوله بوضوح ، أن الحرب على غزة لن تتوقف وأنه لا انسحاب من فيلادلفيا ولا من نتساريم ، وأن الاستمرار في هدم ما تبقى من غزة سيتواصل ، وأن برك الدم ستتسع لتتجاوز الحواف .
إنني لا أقول ذلك لأن نتنياهو عاد ليتحدث عن الانبعاث وزيادة الهجمات ورفع مستوى الضغط العسكري ، وعدم إيقاف الحرب لتحقيق هدف ترمب بألفاظه ( أي التهجير ) ، ولا أقوله أيضا بناءا على المعلومات الخاصة باستدعاء الاحتياط في إسرائيل ، أو إعادة توزيع القوات لتشكيل خمس فرق تنهي المهمة في غزة ، ولا أقوله أيضا لأن نتنياهو يريد الاستمرار في الحرب لأسباب تخصه .
نعم نتنياهو يريد استمرار هذه الحرب ، هذا صحيح ، ولكن إرادته الذاتية وحدها لا تمثل القوة الدافعة الأساسية لاستمرار الحرب ، فقد تشكّل موضوعيا ما يشبه قانونا طبيعيا دافعا لاستمرار الحرب ، بتفاعل ثلاثة عناصر أساسية ، أولها الحالة الإسرائيلية الراهنة ، وثانيها الإصرار على الهيمنة الأمريكية على الإقليم ، وثالثها ارتخاء وتفكك النظام الإقليمي العربي ، أما العنصر الأخير فهو لا يحتاج إلى تفصيل ، وأما العنصر الأول فقد تحولت إسرائيل فعليا إلى جيش يعمل بالأجر لصالح الولايات المتحدة ، لكنها على امتداد الطريق فقدت السياحة والاقتصاد وشركات التكنولوجيا وسمعة الدولة والواجهة البراقة ، وكثيرا من قواعد التماسك الداخلي ،ولم يبق لها إلا الجيش دالة على بقاء الدولة ، وعلى هذا الجيش أن يظل في مناخ مشبع بالنيران ، وأن يظل يعمل من أجل صيانة ما تبقى من تماسك داخلي ، إن استمرار الحرب ضرورة إسرائيلية وهو في الوقت ذاته ضرورة أمريكية ، وضرورة بالسلب من اللا نظام الإقليمي العربي .
لقد أقرت هآرتس بأن نتنياهو مجرد لاعب ثانوي في مسرحية ترمب ، وربما يبقى الاعتراض فقط على كلمة ثانوي ، وأقر غيرها بأن ترمب هو الذي يغير الشرق الأوسط وليس نتنياهو ، والأهم من ذلك أن أمريكا على حد تعبير ( فوكس نيوز ) ليست مقيدة بالتاريخ ، وهي أيضا وباليقين ليست مقيدة بالجغرافيا ، فالحرب لأمريكا هي صحة الدولة ، لكن الحرب لإسرائيل هي بقاء الدولة .
خامسا : في أفق معتم مشبّع بالدخان والغضب والبارود ، حلّق ( نسر الحضارة ) في مناورات بين سلاح الجو المصري وسلاح الجو الصيني ، لكنني اعتقد أن كثيرا من الإجابات التي طُرحت على أسئلة بعينها مما يدخل في طبيعة المناورات ، أو صُلب العلاقة العسكرية المصرية الصينية ، لا ينبغي أن تكون محل تركيز كحصول مصر مثلا على منظومة الدفاع الجوي (كيو 9 ) التي تمثل النسخة الصينية من ( أس 400 ) الروسية ، أو حصول مصر على طائرات من طراز ( جيه 10 ) أو ( جيه 20 ) أو مشاركة ( سخوي 29 ) وحدها في المناورات ، أم تداخلت معها (الرافال) ، أو(أف 16) الخ ، لأنني أحسب أن الغموض في الردع أكثر فاعلية من الوضوح .
ما أحب أن أركز عليه بخصوص (نسر الحضارة ) ثلاثة أمور :
الأول : أن الإقليم يواجه هيمنة أمريكية متعددة المستويات والأدوات والإكراه ، وأن هذه الهيمنة تخلق بذاتها نوعا من الجاذبية لا تتيح لأي حليف أن ينتزع لنفسه موقفا دفاعيا مستقلا تجاه التهديدات والمخاطر التي توجه نيرانها الثقيلة إليه ، وفي هذه المناورات في الحد الأدنى ما يدحض سطوة هذه الجاذبية ، وما يؤكد إمكانية الخروج عليها .
الثاني : أن وزير الدفاع الأمريكي وزع بنفسه قرب منتصف عام 2021 تعميما من البنتاجون على كل حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة في الإقليم ، أن يلتزموا بالابتعاد تماما عن أي علاقة عسكرية مع الصين أيا كانت صيغها ، وعلى كافة المستويات .
الثالث : خلفية التوقيت ، والفضاء الوطني للمناورة وما يحيط به ، والمدى الزمني لها .
ماذا يعني ذلك ، وما هو توصيفه الدقيق .
إنه يعني كما أحسب ، أننا أمام مقدمة استدارة إستراتيجية مصرية ، وهي استدارة لا بديل عنها ، ولا بديل سواها أيا كانت أثمانها باهظة وتكلفتها عالية ، رغم أنها في الواقع الأقل ثمنا ، والأدنى تكلفة ، لكنها ككل استدارة إستراتيجية تحتاج إلى طاقة لا تنفذ من الإرادة والجسارة والمبادءة ، لكي تكتمل حلقاتها وتتحول إلى حالة وطنية عامة .
خامسا : إن الثابت والجوهري في ذلك كله ، أننا أمام ميادين حرب مفتوحة وممتدة ، حتى لو أخذ بعضها صور تهدئة مؤقتة أو موقوتة ، وأننا أمام تمركز نصف القوة الإستراتيجية الأمريكية فوق المسرح الإستراتيجي للشرق الأوسط ، وهي قوة أعلى من مستوى التهديد ، وأعمق من حائط للردع