في زمن تتقاطع فيه الطقوس الدينية مع مشاريع الاحتلال، وتذوب فيه الحدود بين المقدس والسياسي، تفتح إسرائيل أبوابها لنحو 600 رجل دين درزي من سوريا، في زيارة هي الأكبر من نوعها منذ نصف قرن.
زيارة تبدأ من مقام النبي شعيب، لكنها لا تنتهي عند حدود الطقوس… بل تمتد إلى عمق استراتيجية إسرائيلية قديمة: تفكيك الهويات، وزرع الولاءات، وتوظيف الدين لخلق اختراق ناعم في المجتمعات المجاورة.
يشارك رجال الدين السوريون، الخميس، في زيارة لمقام النبي شعيب قرب بلدة حطين داخل الأراضي المحتلة، وذلك بعد مصادقة خاصة من وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس.
وتُعد هذه الزيارة التي تُنظم ضمن الطقوس السنوية للطائفة الدرزية، الأكبر من نوعها منذ أكثر من خمسين عامًا.
ورغم تأكيد المصادر أن المشاركة “دينية بحتة، دون أي تمثيل رسمي”، فإن السياق السياسي، وتوقيت الزيارة، والطرف الذي أصدر التصاريح، يثيرون تساؤلات حول الأهداف الأبعد من مجرد أداء الشعائر.
ويضم الوفد مشايخ من مناطق عدة أبرزها جرمانا وصحنايا والسويداء وجبل الشيخ، دون مشاركة مشايخ العقل الثلاثة.
ومن المقرر أن يستضيفهم عدد من القرى الدرزية في الجليل، مع السماح لهم بالمبيت ليلة واحدة قبل العودة إلى سوريا، في سابقة تختلف عن زيارة سابقة أقيمت منتصف مارس الماضي واقتصرت على يوم واحد.
وتأتي هذه الخطوة في وقت تكثّف فيه إسرائيل ضرباتها على الداخل السوري، ما يعكس تناقضًا صارخًا بين العدوان العسكري من جهة، ومحاولات مد جسور “ناعمة” مع مكونات اجتماعية من جهة أخرى.
ويرى مراقبون أن تل أبيب تسعى إلى كسب مواقع رمزية داخل الطائفة الدرزية، مستغلة الوضع السوري المتأزم، والانقسامات الداخلية، لترسيخ نفوذ غير مباشر في الجوار.
تاريخياً، كانت الطائفة الدرزية في سوريا ذات دور بارز في مقاومة الاستعمار الفرنسي، لكن خلال عقود من حكم الرئيس السوري بشار الأسد، تميزت علاقة الدروز بالحكومة السورية بتعاون متبادل رغم التحديات.
ومنذ بداية الثورة السورية في 2011، ظل موقف الطائفة الدرزية في سوريا محط جدل. في حين أن بعض مشايخ الطائفة اختاروا الوقوف إلى جانب النظام، كان آخرون يفضلون التزام الحياد، خشية من تداعيات الثورة والصراع الأهلي.
يُذكر أن أحمد الخطيب، أحد الشخصيات الدينية البارزة في جبل العرب، كان قد تمتع بعلاقة وطيدة مع النظام السوري. لكن مع بداية الثورة، اتخذ مواقف تتسم بالتأني، داعيًا في البداية إلى الحفاظ على التعايش المشترك بين الطوائف المختلفة.
ومع تصاعد القتال، اختار بعض القادة الدروز دعم النظام السوري بحذر، بينما تبنى البعض الآخر نهجًا أكثر استقلالية، محاولين الحفاظ على الهوية الدرزية في خضم صراع مرير.
أما بشار الأسد، فقد حاول توظيف العلاقة مع الدروز لتثبيت سلطته. فقد جلبهم إلى صفه عبر تقديم امتيازات وإغراءات سياسية، مع إبراز دورهم في الجيش والمخابرات، مما عزز تواجدهم ضمن تحالفات النظام.
ومع ذلك، بدأت بعض الأصوات الدينية تطالب بمزيد من الحريات السياسية، ورفضوا تحويلهم إلى أداة في الصراع السياسي بين النظام والمعارضة.
لطالما كانت الطائفة الدرزية في فلسطين المحتلة نقطة جدلية في العلاقة مع الدولة الإسرائيلية، حيث تم فرض التجنيد الإجباري على الشبان الدروز منذ خمسينيات القرن الماضي.
وقد اختار العديد من أبناء الطائفة الانخراط في صفوف الجيش الإسرائيلي، مما أثار جدلاً واسعاً بين الفلسطينيين بشكل عام وبين الدروز أنفسهم. ويُنظر إلى هذه الخدمة على أنها خطوة نحو مزيد من التماهي مع المشروع الإسرائيلي، رغم كونها تأتي في سياق تعاطي إسرائيل مع الأقليات العربية من خلال سياسة “التجنيد الطوعي” لأبناء الطائفة الدرزية.
تعود جذور هذا التجنيد الإجباري إلى فترة ما بعد النكبة، حيث اعتبرته إسرائيل وسيلة لتقسيم المجتمعات الفلسطينية وتشجيع الولاءات المتعددة لها.
وعلى الرغم من أن الدروز في سوريا ولبنان لم يخضعوا لذات الضغوط، فإن دروز إسرائيل أصبحوا في معظمهم جزءاً لا يتجزأ من الجيش الإسرائيلي، حيث كانت لهم وحدات خاصة تحت مسميات متنوعة.
وقد شارك العديد منهم في حروب إسرائيل المختلفة، بما في ذلك حرب 1948، وحرب 1967، وحروب لبنان، وحتى العمليات العسكرية في الأراضي الفلسطينية.
وبالنسبة للدروز الذين يعيشون في الجليل والمثلث والنقب، أصبح التجنيد في الجيش الإسرائيلي من المواضيع الحساسة، حيث تُعتبر الخدمة العسكرية بمثابة “إثبات ولاء” للدولة، وهو ما يعارضه العديد من الفلسطينيين في الداخل، باعتبار أن هذه الخدمة تُستخدم لتكريس الانقسامات الداخلية وتعزيز نفوذ الاحتلال.
من جانب آخر، يشير البعض إلى أن الخدمة في الجيش توفر بعض الامتيازات للأفراد وعائلاتهم، سواء في مجالات التعليم أو العمل أو الرعاية الصحية، وهو ما يجعل بعض الدروز ينظرون إليها كفرصة لتحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي.
ومع تطور الأحداث في السنوات الأخيرة، بدأ ظهور بعض الأفراد الدروز في ساحات القتال في غزة، وهو ما أثار ردود فعل متباينة.
فظهور الجنود الدروز في العمليات العسكرية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة خصوصاً، جعلهم هدفًا لانتقادات شديدة من قبل بعض أبناء الطائفة، الذين يرون أن هذا التورط العسكري قد يشوّه سمعة الطائفة ويضعها في مواجهة مع باقي مكونات المجتمع الفلسطيني.
في عدة عمليات عسكرية شنّتها إسرائيل على غزة، كانت وحدات درزية تساهم بشكل بارز في مهام خاصة، منها عمليات الاستطلاع، وتوجيه المدفعية، وحتى المشاركة في القتال المباشر.
وظهرت صور لجنود دروز في غزة على منصات الإعلام الإسرائيلية، حيث تم تصويرهم أثناء مشاركتهم في العمليات العسكرية ضد الفصائل الفلسطينية. وعلى الرغم من أن هذه العمليات تُقدّم كأدوات لحماية الدولة الإسرائيلية، إلا أن تسليط الضوء على مشاركة الدروز في القتال في غزة يظهر مدى التورط المتزايد لهذه الطائفة في آلة الحرب الإسرائيلية.
قد تكون هذه المشاركة في القتال ضد الفلسطينيين في غزة هي أحد التحديات الكبرى التي تواجه الطائفة الدرزية في الداخل.
فبينما ينظر الجيش الإسرائيلي إلى هؤلاء الجنود باعتبارهم جزءًا من القوة العسكرية، يعتبرهم البعض في المجتمع الفلسطيني “خونة” أو “أدوات في يد الاحتلال”. هذا التناقض بين الخدمة العسكرية من جهة، والتوجه الوطني لمجتمع درزي يعتبر نفسه جزءًا من الشعب الفلسطيني، يزيد من تعقيد الهوية الوطنية لأبناء الطائفة.
وقد حاول العديد من المشايخ الدروز في السنوات الأخيرة أن يؤكدوا موقفهم الوطني ويطالبوا بأن تكون هويتهم الدرزية جزءاً من النسيج الفلسطيني، وليس وسيلة لتمرير سياسة الاحتلال.
وعلى الرغم من الضغوط التي يتعرض لها هؤلاء المشايخ من قبل حكومة الاحتلال، يواصل بعضهم الدعوة إلى استقلالية الطائفة وعدم التورط في سياسة الاحتلال. كما ظهرت أصوات داخل الطائفة تعارض فكرة التجنيد الإجباري، وتطالب بتغيير هذا النظام الذي يرى البعض أنه يساهم في تعزيز الانقسامات داخل المجتمع الفلسطيني.
لكن، في المقابل، يعتبر بعض الدروز الذين يخدمون في الجيش الإسرائيلي أن هذه الخدمة توفر لهم فرصًا أمنية واجتماعية واقتصادية، وأنها تُمكنهم من تأمين حياة أفضل لعائلاتهم.
وفي بعض الحالات، يُعزى هذا التوجه إلى واقع حياة الدروز في فلسطين، الذي يفرض عليهم اتخاذ خيارات صعبة بسبب العيش تحت ضغط السلطة الإسرائيلية.
ومع استمرار هذه الظاهرة، فإن العلاقة بين الدروز وإسرائيل ستظل موضوعًا مثيرًا للجدل والتوتر، سواء على مستوى الطائفة نفسها أو على مستوى المجتمع الفلسطيني ككل. فبينما يرى البعض في الخدمة العسكرية للدروز محاولة للاندماج في المجتمع الإسرائيلي، يعتبرها آخرون جزءًا من مشروع الاحتلال الذي يهدف إلى تقسيم الفلسطينيين وتحقيق أهدافه الاستراتيجية عبر خلق ولاءات فرعية.










