في عمق المشهد الجيوسياسي المضطرب في اليمن، تتكشف تفاصيل مثيرة حول الحملة العسكرية التي تشنّها الولايات المتحدة تحت مسمى “عملية رايدر الخام”. ورغم الطلعات الجوية المكثفة والعمليات النوعية التي نفذتها القوات الأمريكية ضد مواقع الحوثيين، إلا أن كلفة هذه الحملة باتت عبئًا ثقيلًا على الخزينة الأمريكية، دون أن تنجح في تحجيم قدرة الجماعة على مواصلة هجماتها. فبين حسابات القوة واستنزاف الموارد، تلوح مؤشرات على أن هذه العملية قد تتحول إلى مستنقع مكلف، يثير القلق داخل أروقة البنتاغون ويضع الاستراتيجية الأمريكية في موضع المساءلة الجادة.
تشهد الحملة العسكرية الأمريكية ضد جماعة الحوثيين في اليمن، التي أطلقتها إدارة الرئيس دونالد ترامب تحت اسم “عملية رايدر الخام”، تصاعدًا في التكاليف المالية مع تحقيق نتائج ميدانية محدودة. تبرز البيانات الرسمية والتحليلات العسكرية فجوةً واسعةً بين الإنفاق الهائل على العمليات العسكرية من جهة، وقدرة الحوثيين على الاستمرار في هجماتهم من جهة أخرى، مما يطرح تساؤلات حول جدوى الاستراتيجية الحالية وتأثيرها على الموازنة الدفاعية الأمريكية.
التكاليف المالية: مليار دولار شهريًا واستنزاف للذخائر
بلغت تكلفة العمليات العسكرية الأمريكية في اليمن نحو مليار دولار شهريًا منذ انطلاقها في منتصف مارس 2025. شملت هذه التكاليف استخدام صواريخ متطورة مثل “توماهوك” (بتكلفة تتراوح بين 1.4 و2 مليون دولار للصاروخ الواحد) و**”جي إس أو دبليو”** (التي تتجاوز تكلفتها 700 ألف دولار للوحدة). كما أن تكلفة تشغيل حاملة الطائرات “يو إس إس هاري ترومان” وحدها تصل إلى 8 ملايين دولار يوميًا.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو استنزاف المخزونات العسكرية الأمريكية. فقد أعلنت القيادة المركزية الأمريكية عن إطلاق أكثر من 800 ضربة جوية خلال 45 يومًا، مما أدى إلى استهلاك كميات كبيرة من الذخائر الموجهة بدقة التي كانت مخصصة أصلاً لسيناريوهات مواجهة محتملة مع الصين. هذا الاستنزاف دفع مسؤولين في البنتاغون إلى التحذير من مخاطر “تآكل الردع الاستراتيجي” أمام التحديات العالمية الأخرى.
الخسائر العسكرية: طائرات بدون طيار بقيمة 200 مليون دولار
سجلت الحملة خسائر مادية غير مسبوقة للجيش الأمريكي، حيث أسقط الحوثيون 7 طائرات بدون طيار من طراز MQ-9 Reaper بين مارس وأبريل 2025، تبلغ قيمة الواحدة منها 30 مليون دولار. هذه الخسائر تمثل تحديًا تقنيًا كبيرًا، إذ أن هذه الطائرات مصممة للعمل في بيئات منخفضة التهديدات، لكن الحوثيين طوروا قدراتهم باستخدام أنظمة دفاع جوي محلية التصنيع بدعم إيراني.
النتائج الميدانية: انخفاض الهجمات بنسب متواضعة
رغم الادعاءات الأمريكية بانخفاض هجمات الحوثيين بنسبة 69% في الصواريخ الباليستية و55% في الطائرات المسيرة، تشير الوقائع إلى استمرار القدرة الهجومية للميليشيات. ففي أبريل 2025، أعلن الحوثيون تنفيذ 18 هجومًا بحريًا ناجحًا، بما في ذلك استهداف حاملة الطائرات الأمريكية “هاري ترومان” مما أجبرها على الانسحاب شمالاً في البحر الأحمر.
التحصينات تحت الأرضية شكلت تحديًا رئيسيًا، حيث أكدت تقارير استخباراتية أن الحوثيين نقلوا 80% من مخزونهم الصاروخي إلى أنفاق محصنة بعمق 40 مترًا تحت الأرض، مما قلل من فعالية الضربات الجوية. كما ظلت شبكات التوريد الإيرانية تعمل عبر طرق برية معقدة عبر محافظة مأرب، مستفيدةً من التضاريس الوعرة.
التداعيات الإنسانية: ارتفاع الضحايا المدنيين
أدت الحملة إلى تصاعد الضحايا المدنيين، حيث سجلت الأمم المتحدة زيادة ثلاثية في القتلى والجرحى بين فبراير ومارس 2025. من الحوادث البارزة:
- ضربة أبريل 2025 على ميناء رأس عيسى النفطي: 74 قتيلاً و171 جريحًا.
- غارة على مركز احتجاز مهاجرين في صعدة: 68 قتيلاً من الإثيوبيين.
- ضربات على أحياء سكنية في صنعاء: 8 قتلى مدنيين.
هذه الحوادث أثارت انتقادات دولية، حيث وصف المبعوث الأممي إلى اليمن الوضع بأنه “خطر متصاعد على المدنيين يتعارض مع القانون الإنساني الدولي”.
التداعيات الاستراتيجية: اختبار للسياسة الأمريكية الجديدة
تعكس الحملة تحولاً في الاستراتيجية الأمريكية تحت إدارة ترامب، تتمثل في:
- الاعتماد على القوة النارية المكثفة بدلاً من الحلول الدبلوماسية.
- التصعيد المباشر ضد إيران عبر استهداف حلفائها الإقليميين.
- تجاهل التحذيرات اللوجستية بشأن استنزاف المخزونات العسكرية.
لكن النتائج الميدانية تظهر محدودية هذا النهج، حيث استطاع الحوثيون:
- تعويض الخسائر عبر خطوط إمداد جديدة عبر البحر الأحمر.
- تطوير أنظمة صواريخ باليستية محلية (مثل صاروخ “قاهر-2M”) بمدى 500 كم.
- تعزيز التحالفات الإقليمية مع فصائل عراقية وسورية مدعومة إيرانيًا.
مفارقة التكلفة والنتيجة
تشكل الحملة الأمريكية في اليمن حالة دراسية في إدارة الصراعات غير المتماثلة، حيث تبرز عدة تناقضات:
- التناقض المالي: إنفاق مليار دولار شهريًا دون تحقيق نصر حاسم.
- التناقض الاستراتيجي: استنزاف موارد مخصصة لمواجهة الصين في صراع ثانوي.
- التناقض الإنساني: تصاعد الضحايا المدنيين رغم الادعاءات بدقة الضربات.
تتطلب الخلاصة إعادة تقييم جذرية للاستراتيجية الأمريكية، مع إعطاء أولوية للحلول السياسية التي تراعي التعقيدات القبلية في اليمن، والاستفادة من الوساطة العمانية التي أثبتت فعاليتها سابقًا في تحقيق هدنة 2022. في غياب ذلك، تبدو الحملة مسارًا مفتوحًا نحو مزيد من الاستنزاف المالي والبشري دون أفق واضح للحل.










