بينما كانت طائرات الاحتلال تُمطر غزة بالقنابل، كانت شاحنات الأسمنت المصرية تعبر الحدود إلى إسرائيل محمّلة بمواد البناء التي قد تُستخدم، بشكل مباشر أو غير مباشر، في تعمير مستوطنات أو تشييد مواقع عسكرية جديدة.
في مفارقة تثير الغضب والأسى، تكشف الأرقام الرسمية عن تصاعد غير مسبوق في صادرات الأسمنت المصري إلى إسرائيل، بالتزامن مع واحدة من أشرس الحروب التي شهدها القطاع المحاصر منذ عقود.
فهل أصبح الاقتصاد المصري شريكًا غير مباشر في آلة الحرب الإسرائيلية؟ وهل يمكن تبرير استغلال “فرصة” انسحاب تركيا من السوق، على حساب الدم الفلسطيني؟
تشير بيانات رسمية إسرائيلية ومصرية إلى زيادة غير مسبوقة في صادرات الأسمنت المصرية إلى إسرائيل خلال فترة الحرب على غزة.
حيث سجلت مصر أعلى معدل في تصدير الأسمنت إلى إسرائيل منذ بدء العلاقات التجارية بين البلدين في هذا القطاع، بزيادة بلغت 13 ضعفًا مقارنة بالفترة السابقة.
واستغلت مصر قرار تركيا بوقف تصدير الأسمنت إلى إسرائيل لتعزيز موقعها كمورد رئيسي لهذه المادة الأساسية في البناء والتشييد إلى السوق الإسرائيلي.
حجم الصادرات والنمو غير المسبوق
بلغت القيمة الإجمالية لصادرات الأسمنت المصرية إلى إسرائيل خلال الفترة من أكتوبر 2023 وحتى فبراير 2025 نحو 223.3 مليون دولار، مقارنة بـ 17.1 مليون دولار فقط خلال فترة مماثلة سابقة.
هذه الزيادة الكبيرة تعكس تحولًا جذريًا في حجم التبادل التجاري بين البلدين في قطاع الأسمنت، وتظهر مدى اعتماد إسرائيل المتزايد على الأسمنت المصري خلال فترة الحرب.
وتشير البيانات إلى أن عام 2024 شهد قفزة هائلة في صادرات الأسمنت المصرية إلى إسرائيل، حيث بلغت القيمة في الأشهر العشرة الأولى من العام 50.7 مليون دولار.
ووفقًا للمجلس التصديري لمواد البناء في مصر، فقد نمت صادرات الأسمنت المصري إلى إسرائيل بنسبة 5424% خلال هذه الفترة، مقارنة بـ 919 ألف دولار فقط خلال نفس الفترة من العام السابق.
تأثير القرار التركي على الصادرات المصرية
في أبريل 2024، أعلنت تركيا فرض قيود على تصدير 54 منتجًا إلى إسرائيل، من بينها مواد البناء والأسمنت، احتجاجًا على استمرار الحرب في غزة. وأوضحت وزارة التجارة التركية أن القرار سيظل ساريًا حتى توقف إسرائيل العمليات العسكرية في غزة وتسمح بتدفق المساعدات الإنسانية بشكل كافٍ ودون انقطاع إلى القطاع.
استغلت مصر هذا القرار لزيادة صادراتها من الأسمنت إلى إسرائيل بشكل كبير. فبحسب البيانات الرسمية، ارتفع المتوسط الشهري لصادرات الأسمنت المصرية إلى إسرائيل من 2.6 مليون دولار قبل القرار التركي، إلى 20.4 مليون دولار بعده، أي بزيادة بلغت 660%. وبذلك، أصبحت مصر أحد أهم مصدري الأسمنت إلى إسرائيل، إلى جانب قبرص واليونان.
التطور الشهري لصادرات الأسمنت المصرية
يظهر التحليل الشهري لصادرات الأسمنت المصرية إلى إسرائيل نموًا مستمرًا منذ بداية الحرب، مع زيادة ملحوظة بعد قرار تركيا. فقد بلغت قيمة الصادرات أدنى مستوياتها في نوفمبر 2023 بقيمة 804 آلاف دولار، لكنها ارتفعت لتصل إلى أعلى مستوى لها في ديسمبر 2024 بقيمة 28.2 مليون دولار، ثم 26.1 مليون دولار في يناير 2025. وهذا يشير إلى زيادة بنسبة 3257% بين هذين الشهرين.
أهمية الأسمنت المصري للسوق الإسرائيلي
أصبح الأسمنت المصري يشكل نسبة كبيرة من إجمالي الأسمنت المستخدم في إسرائيل. فقد صرح رئيس مجلس إدارة ميناء أشدود الإسرائيلي بأن 25% من الأسمنت الموجود في إسرائيل حاليًا يأتي من مصر. وهذا يعكس الدور المتزايد الذي تلعبه مصر في توفير مواد البناء الأساسية للسوق الإسرائيلي.
وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل تغطي نحو 60% من احتياجاتها من الأسمنت من خلال الواردات، وفقًا لوزارة الاقتصاد الإسرائيلية. وقد أدى قرار تركيا بوقف تصدير الأسمنت إلى توجه إسرائيل نحو مصادر بديلة، وكانت مصر في مقدمة هذه المصادر.
النقل البحري والجسر التجاري بين البلدين
يلعب النقل البحري دورًا حيويًا في حركة تجارة الأسمنت بين مصر وإسرائيل، نظرًا لانخفاض تكاليفه مقارنة بوسائل النقل الأخرى، وقرب المسافة بين الموانئ المصرية والإسرائيلية.
وقد شهدت الفترة الأخيرة نشاطًا مكثفًا للسفن المخصصة لنقل الأسمنت بين موانئ البلدين، وتحديدًا بين ميناءي حيفا وأشدود الإسرائيليين، والموانئ المصرية مثل العريش والإسكندرية وبورسعيد.
وأظهرت تقارير مراقبة حركة السفن نشاط 19 سفينة على الأقل خلال الأشهر الثلاثة الماضية، تنحصر رحلاتها بين الموانئ المصرية والإسرائيلية. وتشمل هذه السفن سبع سفن حاويات، وست ناقلات أسمنت، وخمس سفن شحن عامة، وسفينة شحن سائب واحدة.
تباين البيانات بين المصادر المصرية والإسرائيلية
تُظهر البيانات تفاوتًا ملحوظًا بين الأرقام المعلنة من الجانب المصري والجانب الإسرائيلي حول حجم صادرات الأسمنت. ففي حين تشير بيانات المجلس التصديري المصري لمواد البناء إلى صادرات بقيمة 50.7 مليون دولار في عام 2024، تذكر البيانات الإسرائيلية أن الواردات من مصر خلال نفس الفترة بلغت 120.7 مليون دولار.
المكانة التجارية للأسمنت المصري في السوق الإسرائيلي
تطورت تجارة الأسمنت بين مصر وإسرائيل بشكل ملحوظ منذ بدايتها الرسمية في عام 2021، عندما صادق معهد المواصفات الإسرائيلي على استقبال الشحنة الأولى من الأراضي المصرية. وتظهر البيانات المتاحة التطور السنوي لهذه التجارة:
في عام 2021 بلغت قيمة صادرات الأسمنت المصرية إلى إسرائيل 1.38 مليون دولار. وفي عام 2022 ارتفعت إلى 1.65 مليون دولار. أما في عام 2023 فقد سجلت 3.80 مليون دولار. ومن يناير إلى أكتوبر 2024 قفزت قيمة الصادرات إلى 50.7 مليون دولار.
وتشير البيانات أيضًا إلى أن إسرائيل أصبحت رابع أكبر مستورد للأسمنت المصري، بعد ساحل العاج وليبيا وغانا.
توضح البيانات الرسمية الإسرائيلية والمصرية زيادة غير مسبوقة في صادرات الأسمنت المصرية إلى إسرائيل خلال فترة الحرب على غزة.
وقد استفادت مصر من قرار تركيا بوقف تصدير الأسمنت إلى إسرائيل لتعزيز موقعها كمصدر رئيسي لهذه المادة الحيوية للسوق الإسرائيلي.
ويبرز هذا التطور في العلاقات التجارية بين البلدين خلال فترة التوتر الإقليمي كمؤشر على استمرار التعاون الاقتصادي بينهما رغم الظروف السياسية المعقدة في المنطقة.











