السّيْطَرَةُ الإِمَارَاتِيَّةُ عَلَى الأَصُولِ المِصْرِيَّةِ: مِنْ رَأْسِ الحِكْمَةِ إِلَى قَنَاةِ السُّوَيْسِ وَأَرْضِ الحِزْبِ الوَطَنِيّ
شهدت العلاقات الاقتصادية بين مصر والإمارات تطوراً كبيراً في السنوات الأخيرة، حيث توسعت الاستثمارات الإماراتية لتشمل قطاعات حيوية واستراتيجية في الاقتصاد المصري. وفقاً للبيانات الحديثة، قفزت الاستثمارات الإماراتية في مصر إلى نحو 65 مليار دولار بعد توقيع صفقة رأس الحكمة، لتعزز الإمارات بذلك موقعها كأكبر مستثمر عربي في مصر والثالث عالمياً. وتتنوع هذه الاستثمارات بين المشاريع العقارية الضخمة، والمناطق اللوجستية، والموانئ، والأصول المالية والصناعية، مما يثير تساؤلات حول مدى تأثير هذه الاستثمارات على السيادة الاقتصادية المصرية.
مشروع رأس الحكمة: أكبر استثمار أجنبي مباشر في تاريخ مصر
يُعتبر مشروع رأس الحكمة الواقع على الساحل الشمالي الغربي لمصر على بعد 350 كيلومتراً شمال غرب القاهرة، درة تاج الاستثمارات الإماراتية في مصر. فقد شهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، إطلاق المشروع باستثمارات مباشرة قدرها 35 مليار دولار.
استحوذت شركة “القابضة” (ADQ) الإماراتية على حقوق تطوير المشروع مقابل 24 مليار دولار، بالإضافة إلى تحويل 11 مليار دولار من الودائع الإماراتية لدى البنك المركزي المصري لاستخدامها في الاستثمار بمشاريع أخرى. وقد تم تعيين شركة “مُدن القابضة” الإماراتية كمطور رئيسي للمشروع، وستعمل بالتعاون مع شركاء بارزين من مصر والإمارات والمجتمع الدولي.
مكونات وحجم المشروع
يمتد مشروع رأس الحكمة على مساحة تزيد على 170 مليون متر مربع، ويتألف من مرافق سياحية ومنطقة حرة ومنطقة استثمارية، إلى جانب المباني السكنية والتجارية والترفيهية. كما سيضم المشروع منطقة سكنية تحتوي على نحو 190 ألف فيلا وشقة، تستوعب ما يصل إلى مليوني نسمة، مع تخصيص 12 مليون متر مربع لتجارة التجزئة والترفيه والاستجمام، و25% من المساحة الإجمالية للمساحات المفتوحة.
التأثير الاقتصادي المتوقع
وفقاً للبيانات المعلنة، من المتوقع أن يبلغ إجمالي الاستثمار التراكمي للمشروع نحو 110 مليارات دولار بحلول عام 2045. كما يُتوقع أن يساهم المشروع بنحو 25 مليار دولار سنوياً في الناتج المحلي الإجمالي المصري، وأن يوفر نحو 750 ألف فرصة عمل بشكل مباشر وغير مباشر.
وقد أشار معالي محمد حسن السويدي، وزير الاستثمار في دولة الإمارات، إلى أن مشروع رأس الحكمة “يعكس التعاون الاقتصادي المتنامي بين الإمارات ومصر”، وأن وزارة الاستثمار الإماراتية حرصت على “خلق بيئة استثمارية مواتية لدعم مساهمة الشركات الإماراتية في تنمية مصر وحفز فرص النمو الاقتصادي طويل الأمد والازدهار المشترك”.
مشروع “كيزاد” على ضفة قناة السويس
في خطوة توسعية أخرى، وقعت مجموعة موانئ أبوظبي الإماراتية، اتفاقية مع الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، لتطوير وتشغيل منطقة صناعية ولوجستية على مساحة 20 كيلومتراً مربعاً، بالقرب من مدينة بورسعيد المصرية لمدة 50 عاماً قابلة للتجديد.
وبموجب الاتفاقية، ستقوم “موانئ أبوظبي” بتطوير وتشييد وتمويل وتشغيل وإدارة المنطقة الصناعية واللوجستية على عدة مراحل، وستستثمر المجموعة 120 مليون دولار للدراسات السوقية والفنية للمنطقة. وسيتم تطوير المرحلة الأولى على مساحة 2.8 كيلومتر مربع، خلال 3 سنوات، على أن تبدأ أعمال التشييد بنهاية العام الجاري، وتتضمن إنشاء رصيف بطول 1.5 كيلومتر، وقد يضم لاحقاً محطة شحن متعددة الأغراض.
جدير بالذكر أن مجموعة موانئ أبوظبي مدعومة من الصندوق السيادي “القابضة” (ADQ) في أبوظبي، الذي كشف مؤخراً عن استثمار 35 مليار دولار في منطقة رأس الحكمة، وهو ذاته الذي اشتهر باستثماراته الواسعة في الاقتصاد المصري.
تطوير أرض الحزب الوطني في وسط القاهرة
على صعيد آخر، أكد أيمن سليمان، الرئيس التنفيذي لصندوق مصر السيادي، أن تحالفاً إماراتياً فاز بتطوير أرض الحزب الوطني المنحل بعد منافسة مع 3 شركات أخرى. وأوضح سليمان أن الأرض ستكون عبارة عن مبنى يضم مكوناً فندقياً وتجارياً وسكنياً وشققاً فندقية.
تعتبر هذه الأرض معلماً أساسياً في ميدان التحرير، بطوابقها الممتدة على 3.95 فدان، وهي ذات قيمة تاريخية كبيرة، حيث كانت مقراً للاتحاد الاشتراكي في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ثم تحولت إلى مقر للحزب الوطني الديمقراطي في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، واستمرت كذلك حتى ثورة يناير 2011.
وشدد سليمان على أن دخول المستثمر الإماراتي لتنمية أرض الحزب الوطني ليس معناه بيع الأرض، ولكن سيكون الصندوق داخل الشراكة بالأرض. كما كشف عن خطة الصندوق الاستثمارية في تطوير مبنى وزارة الداخلية ومجموعة من الأصول والمباني غير المستغلة وبعض المباني الخاصة بالحكومة في القاهرة بعد انتقال الوزارات للعاصمة الإدارية الجديدة، والتي يبلغ عددها 4000 أصل.
استحواذات إماراتية على شركات وبنوك مصرية
لم تقتصر الاستثمارات الإماراتية في مصر على المشاريع العقارية والتنموية، بل امتدت لتشمل استحواذات على حصص في شركات وبنوك مصرية استراتيجية. فقد استحوذت “القابضة” (ADQ) الإماراتية على حصص في 5 شركات مصرية مقابل 1.8 مليار دولار من بنك مصر والبنك الأهلي المصري.
تضمنت هذه الصفقات الاستحواذ على حصص في شركات “أبوقير للأسمدة” بنسبة 21.5%، و20% من أسهم مصر لإنتاج الأسمدة “موبكو”، و32% من أسهم الإسكندرية لتداول الحاويات، ونحو 17% من أسهم “البنك التجاري الدولي”، و12.6% من أسهم “فوري”. كما استحوذت الإمارات على 30% من الشركة الشرقية للدخان، مما خفض حصة الحكومة المصرية إلى 20.95%.
علاوة على ذلك، كشفت تقارير إعلامية عن استحواذ الإمارات على بنك القاهرة، أحد أعرق البنوك المصرية، بصفقة قيمتها مليار دولار. ويعد بنك القاهرة من المؤسسات المالية العريقة، حيث تأسس عام 1952، ويملك أصولاً تقدر بأكثر من 7 مليارات دولار، ويخدم 3 ملايين عميل في مصر وخارجها.
تباين الآراء حول الاستثمارات الإماراتية في مصر
تتباين الآراء حول حجم وطبيعة الاستثمارات الإماراتية في مصر. فبينما تقدمها المصادر الرسمية على أنها استثمارات إستراتيجية تسهم في دفع عجلة التنمية الاقتصادية المصرية، تصفها مصادر أخرى بأنها “احتلال اقتصادي” وسيطرة على أصول مصرية استراتيجية.
وقد أشارت بعض المصادر إلى أن الاستحواذات الإماراتية على الأصول المصرية تمت بأسعار منخفضة، في ظل تدني القيم السوقية للأسهم بعد رفع سعر الفائدة وتحريك قيمة العملة. في حين يرى محمد عادل، المحلل المالي في “الشرق”، أن “الأسهم المصرية جاذبة للشراء في ظل تدني قيمتها، كما أن صفقات أبوظبي ستغير هيكل المساهمين بتلك الشركات بزيادة حصص المستثمرين الأجانب مما قد يجذب مستثمرين آخرين للسوق”.
من جانبها، تؤكد المصادر الرسمية أن هذه الاستثمارات تمثل “شراكة وليست بيعاً للأصول”. وقال مسؤولون مصريون إن مشروع رأس الحكمة “سيكون محركاً رئيسياً في دفع عجلة الاقتصاد المصري”.
تأثير الاستثمارات الإماراتية على الاقتصاد المصري
من المتوقع أن تؤثر الاستثمارات الإماراتية الضخمة إيجاباً على الاقتصاد المصري من عدة جوانب. فهي ستساهم في تخفيف أزمة العملة الصعبة التي تعاني منها مصر، من خلال توفير استثمارات بالدولار. كما ستوفر فرص عمل كبيرة من خلال المشاريع المختلفة، حيث من المتوقع أن يوفر مشروع رأس الحكمة وحده نحو 750 ألف فرصة عمل.
بالإضافة إلى ذلك، ستساهم هذه المشاريع في زيادة الناتج المحلي الإجمالي المصري، حيث من المتوقع أن يساهم مشروع رأس الحكمة بنحو 25 مليار دولار سنوياً في الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2045. كما ستعمل على تنشيط قطاع السياحة، خاصة من خلال مشروع رأس الحكمة الذي سيكون وجهة سياحية فاخرة.
في المقابل، تثار مخاوف من سيطرة أجنبية على قطاعات استراتيجية في الاقتصاد المصري، وتداعيات ذلك على السيادة الاقتصادية للبلاد. فوفقاً لبعض المصادر، تواصل الإمارات التوسع في عمليات الاستحواذ في أكثر القطاعات الحيوية للاقتصاد المصري، بما فيها تلك المتصلة بالأمن الغذائي للبلاد.
الاقتصاد المصري
تشهد العلاقات الاقتصادية بين مصر والإمارات تطوراً غير مسبوق، مع توسع الاستثمارات الإماراتية لتشمل قطاعات حيوية واستراتيجية في الاقتصاد المصري. ويبرز مشروع رأس الحكمة كأكبر استثمار أجنبي مباشر في تاريخ مصر، إلى جانب مشروع “كيزاد” في قناة السويس، وتطوير أرض الحزب الوطني، والاستحواذات على حصص في شركات وبنوك مصرية.
ومع تباين الآراء حول هذه الاستثمارات بين من يراها محركاً للتنمية الاقتصادية، ومن يخشى من تأثيرها على السيادة الاقتصادية، يبقى التحدي الأكبر هو كيفية تحقيق التوازن بين جذب الاستثمارات الأجنبية وضمان المصالح الوطنية المصرية. ولعل الأشهر والسنوات القادمة ستكشف عن المزيد من تفاصيل ونتائج هذه الاستثمارات، وتأثيرها على مستقبل الاقتصاد المصري.










