حين يتحول الحليف إلى ضحية، تسقط الأقنعة وتنكشف حقائق الصراع الليبي في أكثر صوره عرياً ودموية.اختطاف النائب إبراهيم الدرسي، وتعذيبه في سجون سرّية تُدار تحت إشراف مليشيات حفتر، ليس مجرد حادثة معزولة، بل دليل دامغ على دولة تنهشها شبكات القمع والمصالح العائلية.
هذه ليست جريمة فردية، بل فصل من كتاب الانتهاكات الممنهجة التي يمارسها “الجيش الوطني” باسم الوطنية، حيث تسود شريعة القوة على حساب القانون. في قلب بنغازي، تُنتهك الكرامة خلف القضبان، ويُمارس الإرهاب باسم الأمن، وسط صمت دولي مريب وتواطؤ محلي مخجل.
في مشهد يُجسد أعمق أزمات الدولة الليبية المنقسمة، تفجرت قضية النائب إبراهيم الدرسي كقضية رمزية تكشف عن تداعيات الصراع السياسي والعسكري على حقوق الإنسان واستقرار البلاد. تتعمق هذه الدراسة في تحليل الأبعاد المتشابكة للأزمة، من خلال رصد تفاصيل الحادثة وربطها بالسياق التاريخي والسياسي الأوسع، مع التركيز على تأثيراتها المباشرة على المشهد الليبي الراهن.
الخلفية التاريخية: من الثورة إلى الدولة الهشة (2011-2025)
الثورة الليبية وتحولات ما بعد القذافي
شكلت ثورة 2011 منعطفاً حاسماً في التاريخ الليبي الحديث، حيث أدت إلى إسقاط نظام معمر القذافي الذي حكم البلاد لأكثر من أربعة عقود. ومع ذلك، لم تنجح المرحلة الانتقالية في بناء مؤسسات دولة مستقرة، حيث تفاقم الانقسام السياسي بين حكومتي طرابلس وطبرق عام 2014، ليتحول لاحقاً إلى صراع مسلح بين قوات حكومة الوفاق الوطني المدعومة من الأمم المتحدة في الغرب، وقوات “الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر في الشرق.






تطور الأزمة الأمنية في بنغازي
شهدت مدينة بنغازي، ثاني أكبر المدن الليبية، تصاعداً في العنف منذ 2014 مع اشتداد المعارك بين قوات حفتر والجماعات المسلحة المتنافسة. أدى هذا الصراع إلى ظهور شبكات أمنية موازية وانتشار السجون السرية التي تُدار خارج الإطار القانوني، حيث تشير تقارير منظمة “هيومن رايتس ووتش” إلى وجود 28 سجناً غير رسمي في شرق ليبيا بحلول 2023.
تفاصيل قضية إبراهيم الدرسي: من النفوذ إلى الأسر
المسار السياسي للدرسي: تحالفات متغيرة
ارتقى إبراهيم الدرسي في السلم السياسي من خلال تحالفه الاستراتيجي مع خليفة حفتر، حيث لعب دوراً محورياً في شرعنة “عملية الكرامة” عبر خطاباته في مجلس النواب. تحول هذا التحالف إلى صدام عندما بدأ الدرسي ينتقد الفساد المالي في مؤسسات حفتر، خاصةً ما يتعلق بإدارة صندوق الإعمار الذي يشرف عليه بلقاسم حفتر.
تفاصيل الاختطاف والاحتجاز
تشير الوثائق المسربة إلى أن عملية اختطاف الدرسي في 16 مايو 2024 تمت بتنسيق بين عناصر من الفرقة 106 التابعة للقوات الخاصة ومجموعات مسلحة موالية لعلي المشاي، قائد الأمن الداخلي في بنغازي. تم نقل الدرسي إلى سجن الكويفية السرّي، حيث تعرض لأساليب تعذيب نفسي وجسدي منهجية وفقاً لتحليل الخبراء الطبيين الذين فحصوا التسجيلات المصورة.
التحليل الإعلامي: قراءة في الفيديو المسرب وتأثيراته
البنية السيميائية للمشهد
يكشف تحليل لغة الجسد في التسجيلات عن استراتيجية إخضاع ممنهجة:
- السلاسل الحديدية: ترمز إلى سلب الإرادة والتحكم المطلق
- العري الجزئي: أسلوب لإذلال الضحية وتجريدها من الهوية
- زاوية الكاميرا المنخفضة: تُعزز شعور الضحية بالدونية
الانتشار الرقمي وتأثيره على الرأي العام
حققت المقاطع المسربة انتشاراً واسعاً عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث سجل هاشتاغ #ليبيا_تختنق 2.3 مليون تفاعل خلال 48 ساعة من النشر. أظهر تحليل الشبكات الاجتماعية أن 67% من التفاعلات جاءت من داخل ليبيا، بينما شارك 22% من حسابات الشتات الليبي في الحملة.
الأبعاد القانونية والدولية: انتهاكات تصل لمستوى جرائم ضد الإنسانية
القراءة القانونية وفق النظام الأساسي لروما
تشكل ممارسات التعذيب الممنهجة في سجون بنغازي انتهاكاً للمادة 7 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تعرّف “التعذيب” و”الاختفاء القسري” كجرائم ضد الإنسانية عندما تُرتكب كجزء من هجوم واسع النطاق. تكتسب هذه القضية أهمية خاصة نظراً لوجود تقارير سابقة للمحكمة حول انتهاكات مماثلة في ليبيا منذ 2016.
موقف المجتمع الدولي
أصدر مجلس الأمن الدولي بياناً رئاسياً في 28 مايو 2025 يدين “الانتهاكات الجسيمة” في ليبيا، دون الإشارة المباشرة إلى قضية الدرسي. في المقابل، قدم الاتحاد الأوروبي مقترحاً لفرض عقوبات فردية على 7 مسؤولين ليبيين مرتبطين بملف السجون السرية، وفقاً لوثيقة مسربة من مفوضية الشؤون الخارجية.
اهتزاز التحالفات
أظهرت القضية تصدعات في التحالف الشرقي، حيث قدم 12 نائباً من مؤيدي حفتر استقالات جماعية من مجلس النواب احتجاجاً على الحادثة. كما شهدت مدينة بنغازي مظاهرات محدودة لكنها غير مسبوقة أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين السياسيين.
الوحدة الوطنية
استغلت حكومة طرابلس الأزمة لتعزيز شرعيتها الدولية، حيث قدم رئيسها عبد الحميد الدبيبة تقريراً مفصلاً إلى مجلس الأمن يطالب بتمديد تفويض بعثة الأمم المتحدة ليشمل مراقبة حقوق الإنسان في المناطق الشرقية. كما أعلنت عن تشكيل “لجنة وطنية لتقصي الحقائق” برئاسة القاضي محمد الحافيظ، تضم ممثلين عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
خارطة طريق
- الإطار الدستوري: إعادة تفعيل الحوار الدستوري بضمانات دولية
- الإصلاح الأمني: دمج الميليشيات ضمن هيكل عسكري موحد
- العدالة الانتقالية: إنشاء محكمة خاصة لجرائم الحرب
- المصالحة المحلية: حوارات مجتمعية في المناطق المتنازع عليها
الرقابة الرقمية
تقترح منظمة “سيفيكوس” العالمية تطبيق نظام blockchain لتوثيق حالات الاعتقال، حيث يتم تسجيل كل عملية احتجاز في سجل رقمي غير قابل للتلاعب.
كما تدعو إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل الصور الفضائية لاكتشاف مراكز الاحتجاز غير الرسمية.
مفترق طرق تاريخي
تشكل قضية إبراهيم الدرسي اختباراً حاسماً للضمير الدولي والإرادة السياسية الليبية. تظهر التحليلات أن استمرار الإفلات من العقاب ينذر بتعميق الأزمة الإنسانية، بينما قد تشكل الضغوط الدولية المتزايدة فرصة لإعادة رسم خارطة التحالفات السياسية.
يتطلب الخروج من هذه الأزمة رؤية استراتيجية تجمع بين الإصلاح المؤسسي والعدالة الانتقالية، مع ضمانات دولية فعلية لوقف نزيف الانتهاكات التي تهدر كرامة الشعب الليبي منذ أكثر من عقد.










