القاهرة – لم تكن الاتفاقية الأخيرة بين مصر والإمارات مجرد صفقة اقتصادية عابرة، بل أشعلت فتيل أزمة ثقة لدى قطاع واسع من المصريين الذين باتوا يرون في “الاستثمارات الإماراتية” توسعاً منظماً نحو السيطرة على مفاصل السيادة الوطنية، وفي القلب منها منطقة قناة السويس.
ففي وقت تُروّج فيه الحكومة للمشروع كفرصة تنموية كبرى، يرى منتقدون أن ما يجري ليس إلا تفريطاً تدريجياً في أصول استراتيجية تحت غطاء قانوني واستثماري، خصوصاً في ظل غياب الشفافية وتراجع قدرة الدولة على مواجهة الضغوط الاقتصادية.
فهل باتت قناة السويس هدفاً غير معلن في خريطة النفوذ الإماراتي بالمنطقة؟ أم أن المخاوف الشعبية مبالغ فيها وتخضع لحسابات السياسة أكثر من الوقائع؟
أثار توقيع اتفاقية بين الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس ومجموعة موانئ أبوظبي الإماراتية جدلاً واسعاً في مصر خلال الأيام الماضية. الاتفاقية تمنح مجموعة موانئ أبوظبي حق انتفاع لمدة 50 عاماً قابلة للتجديد لتطوير وتشغيل منطقة صناعية ولوجستية بمساحة 20 كيلومتر مربع في شرق بورسعيد. ورغم التطمينات الرسمية، تصاعدت المخاوف من أن يكون هذا جزءاً من استراتيجية أوسع للإمارات للسيطرة على موانئ استراتيجية في مصر، وربما تكون مقدمة لخطوات مستقبلية تتعلق بقناة السويس نفسها.
تفاصيل
وقعت مصر والإمارات في الخامس من مايو 2025 اتفاقية لتطوير منطقة “كيزاد شرق بورسعيد” بحضور رئيس الوزراء المصري وعدد من المسؤولين الإماراتيين البارزين. وبموجب الاتفاقية، ستقوم مجموعة موانئ أبوظبي بتطوير منطقة صناعية ولوجستية على مساحة 20 كيلومتر مربع بالقرب من المدخل الشمالي لقناة السويس.
تشمل الاتفاقية تطوير البنية التحتية الداخلية للمنطقة، مثل محطات توزيع الكهرباء ومحطات الصرف الصحي، وتنفيذ المنشآت الخدمية الداعمة، مثل الوحدات السكنية للعمالة ومراكز التدريب والمستشفيات والمدارس. وفقاً للبيانات الرسمية، سيتم تنفيذ المشروع على عدة مراحل، حيث تبدأ المرحلة الأولى على مساحة 2.8 كيلومتر مربع بنهاية عام 2025.
وحسب تصريحات وليد جمال الدين، رئيس المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، فإن هذا المشروع يقام على ثلث مساحة المنطقة الصناعية لشرق مدينة بورسعيد التابعة للمنطقة الاقتصادية، وستدفع الإمارات كامل تكلفة البنية الداخلية للمنطقة بما يتراوح بين مليار و2 مليار دولار، مقابل حصول مصر على نسبة 15% من إيراد الشركة الإماراتية.
التوسع الإماراتي
ليست هذه الاتفاقية معزولة، بل تأتي ضمن سلسلة من الخطوات التي تعزز تواجد موانئ أبوظبي في مصر. فقد سبق أن وقعت الحكومة المصرية عدة اتفاقيات مع مجموعة أبوظبي للموانئ في يونيو 2024، من بينها “عقد منح التزام لمدة 30 عاماً”.
وتشير المصادر إلى أن موانئ أبوظبي باتت تدير أكثر من ميناء مصري، من بينها سفاجا، الغردقة، العين السخنة، شرم الشيخ، والآن تضع يدها على بورسعيد. ويُعد هذا التوسع جزءاً من استراتيجية “أبوظبي للموانئ” التي تملك وتدير 34 ميناء حول العالم وتتحكم في أسطول يضم 250 سفينة.
يقول أحمد المطوع، الرئيس التنفيذي الإقليمي لمجموعة موانئ أبوظبي: “سيشكل تشييد كيزاد شرق بورسعيد رافداً حيوياً لجذب الاستثمارات، وتعزيز النمو الصناعي واللوجستي، وخلق فرص العمل… كما أن هذه المنطقة ستعزز منظومة الأعمال المتنامية لمجموعة موانئ أبوظبي في مصر، وستوظف الموارد الطبيعية لمنطقة قناة السويس لتنمية قطاع الأعمال والتصنيع”.
أثارت هذه الاتفاقية مخاوف عميقة في الرأي العام المصري، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. ويمكن تلخيص هذه المخاوف في عدة نقاط:
هواجس السيادة
يرى العديد من المصريين أن منح شركة أجنبية السيطرة على مناطق استراتيجية قرب قناة السويس لمدة نصف قرن قد يمس بالسيادة الوطنية. وقد عبّرت أصوات مصرية عديدة داخل وخارج البلاد عن قلق متزايد من تسليم موانئ مصرية حيوية لأطراف أجنبية، دون إشراك الرأي العام أو البرلمان بشكل كاف.
الشبهات
رغم أن الاتفاقية لا تتعلق بالممر الملاحي لقناة السويس، إلا أن الغموض الذي أحاط ببعض تفاصيلها أثار تساؤلات: هل تم تأجير قناة السويس 30 سنة للإمارات؟ وكان الخبر الأولي غامضاً حين تحدث عن “توقيع اتفاقيات بالأحرف الأولى على عقد منح التزام لمدة 30 عاماً بين الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس ومجموعة موانئ أبوظبي”.
استغلال الأزمة
تتزامن هذه الاتفاقيات مع أزمة اقتصادية طاحنة في مصر، وهناك من يرى أن هذه الظروف تدفع الحكومة للتفريط في أصول استراتيجية مقابل عوائد متواضعة. فقد أثار الحديث عن مبلغ 4.7 ملايين دولار فقط لصفقة تمتد 30 عاماً الاستغراب لضآلة المبلغ بالنظر لسنوات الصفقة، “ما يشير لعملية سرقة للموانئ وتفريط فيها وليس تأجير أو حتى بيع”.
الهجمات الحوثية
زاد من هذه المخاوف أن انهيار دخل قناة السويس بنسبة 64% بسبب قصف الحوثيين للسفن في البحر الأحمر قد يدفع مصر مستقبلاً إلى المزيد من التنازلات المتعلقة بالقناة. يرجح أستاذ القانون “السيد أبو الخير” مسألة بيع أو تأجير قناة السويس مستقبلاً، لأن “سياسة النظام الحالي هي التفريط في ركائز الاقتصاد المصري، وفى كل شيء مهم ومربح”.
التوضيحات الرسمية
في مواجهة هذه المخاوف، أصدرت الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس بياناً توضيحياً أكدت فيه عدة نقاط:
الاتفاقية الموقعة تندرج ضمن اختصاصات المنطقة الاقتصادية، ولا تمت بصلة للممر الملاحي لقناة السويس، الذي يقع تحت إدارة وسيادة الهيئة العامة لقناة السويس وليس المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، باعتبارهما هيئتين منفصلتين.
مساحة مشروع “منطقة كيزاد” تبلغ 20 مليون متر مربع، وتقع داخل نطاق منطقة شرق بورسعيد الصناعية التابعة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس والبالغ مساحتها الإجمالية نحو 64 مليون متر مربع، “ولا يتعلق هذا المشروع بميناء شرق بورسعيد”.
الاتفاق الموقع هو عقد “حق انتفاع” وهو الإطار التعاقدي المتبع وفق قانون المناطق الاقتصادية ذات الطبيعة الخاصة رقم 83 لسنة 2002 وتعديلاته بالقانون رقم 27 لسنة 2015.
سوابق مثيرة للقلق
ليست هذه المرة الأولى التي تثار فيها مخاوف بشأن بيع أو تأجير قناة السويس. ففي ديسمبر 2022، أثار مشروع قانون مقدم من الحكومة لإنشاء صندوق مملوك لهيئة قناة السويس جدلاً مماثلاً.
وقتها، وافق مجلس النواب المصري مبدئياً على مشروع القانون الذي يهدف لتنمية موارد القناة من خلال استغلال وتعظيم قيمة أموال ستوضع فيه. وبحسب مشروع القانون، سيتمكن الصندوق الجديد من شراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها.
اعترض عدد من أعضاء مجلس النواب آنذاك على التعديلات الجديدة التي رأوا أن هدفها “بيع أصول مملوكة لهيئة قناة السويس”. وفي تصريح تلفزيوني، قال النائب عاطف مغاوري إن “موارد قناة السويس تعد موردا رئيسيا للخزانة العامة المصرية ويجب عدم الاستقطاع منها”.
كما تتزامن هذه الاتفاقيات مع تصريحات مثيرة للجدل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي طالب مصر بالسماح بمرور السفن عبر قناة السويس مجاناً، قائلاً: “يجب السماح للسفن الأمريكية، العسكرية والتجارية على حد سواء، بالمرور عبر قناتَي بنما والسويس بحُريّة، هاتان القناتان ما كانتا لتوجدا لولا الولايات المتحدة الأمريكية”.
استثمار أم سيطرة؟
تعد قناة السويس ذات أهمية استراتيجية كبرى ليس فقط في التجارة، بل أيضاً في السياسة الدولية. فقد شهدت عبر تاريخها العديد من الأحداث المفصلية، بداية من تأميمها في عام 1956 على يد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. اقتصادياً، أصبحت قناة السويس أحد أعمدة الاقتصاد المصري، حيث تدر مليارات الدولارات سنوياً.
في ضوء هذه الأهمية الاستراتيجية، يبقى السؤال: هل توسعات الإمارات في المناطق المحيطة بقناة السويس مجرد استثمارات اقتصادية أم استراتيجية للسيطرة؟
الحكومة المصرية تؤكد أنها استثمارات تنموية تخلق فرص عمل وتعزز النمو الاقتصادي، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة. بينما يرى المعارضون أنها تنازلات خطيرة عن مفاتيح السيادة.
مع استمرار التعاون الاقتصادي المصري-الإماراتي، تبقى قناة السويس ومناطقها المحيطة محور جدل بين من يراها فرصة للاستثمار وتوسيع التنمية، ومن يخشى عليها كرمز سيادي لا يمكن التفريط فيه.
رغم التطمينات الرسمية بأن الاتفاقيات لا تمس الممر الملاحي لقناة السويس، فإن توقيتها في ظل أزمة اقتصادية خانقة، واستمرار تراجع إيرادات القناة بسبب الهجمات الحوثية، يثير تساؤلات مشروعة حول مستقبل هذا المرفق الحيوي وما إذا كانت هذه الخطوات بداية لمزيد من التنازلات.
يكون التحدي الأكبر أمام الحكومة المصرية هو تحقيق التوازن الدقيق بين جذب الاستثمارات الأجنبية اللازمة لتنمية المناطق المحيطة بالقناة، وضمان الحفاظ على السيادة الكاملة على هذا الممر الاستراتيجي الذي يمثل شريان حياة للاقتصاد المصري وحلقة وصل مهمة في التجارة العالمية.










