في زمنٍ يحاول فيه الخطاب الإسرائيلي أن يُجمّل الاحتلال ويُسوق الاستيطان كـ”عودة تاريخية”، خرجت غادة الكرمي لتفجّر صمت المنصات الغربية بخطابٍ صادمٍ ومُباشر يُعيد تعريف الصراع من جذوره: ليس نزاعًا سياسيًا، بل مشروع استعماري إحلالي سُرقت فيه الأرض، والحق، والرواية.
بمواجهة علنية مع داني دايان، أحد رموز الاستيطان والإنكار، مزّقت الكرمي القناع عن وجه “الشرعية” الإسرائيلية، ووضعت الغرب – قبل الاحتلال – أمام مرآة النفاق التاريخي. كلماتها لم تكن مجرد احتجاج، بل محاكمة علنية لسردية كاذبة تحوّل اللص إلى صاحب أرض، والضحية إلى متهم.
في خطابٍ جريء يُمثل صرخةً فلسطينيةً تعكس جرحًا تاريخيًا نازفًا، تواجه الكاتبة والمفكرة الفلسطينية البريطانية غادة الكرمي الدبلوماسي الإسرائيلي داني دايان بإدانةٍ لاذعة تكشف عن جوهر الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي عبر عدسة الحقوق التاريخية والشرعية الدولية.
تندرج تصريحات الكرمي ضمن سياقٍ أوسع من النقد الجذري للرواية الصهيونية التي تبرّر الاستيطان والاحتلال، حيث تُجسّد كلماتها تراكمًا لمعاناة شعبٍ مُهجّرٍ قسرًا منذ نكبة 1948.
تبدأ الكرمي هجومها بتجريد دايان من أي شرعية أخلاقية أو تاريخية، مُستندةً إلى سيرته الذاتية: مولودٌ في الأرجنتين لعائلةٍ من أصول أوكرانية، ليصبح لاحقًا أحد أبرز وجوه الدبلوماسية الإسرائيلية الداعمة للمستوطنات.
هذه التفاصيل ليست مجرد سردٍ سطحي، بل تشكل ضربةً استراتيجيةً لأسطورة “الشعب اليهودي العائد إلى أرض الأجداد”، فـ”العلاقة بالبلد” هنا تُختزل إلى عملية استعمارية حديثة بغطاءٍ أيديولوجي، لا صلة لها بالتواصل الحضاري أو التاريخي.
تستهدف الكرمي في خطابها البنيةَ التحتيةَ للخطاب الصهيوني الذي يعيد إنتاج نفسه عبر أسطرة الماضي التوراتي، بينما تُبرز تناقضًا جليًّا: كيف لشخصٍ من أصولٍ أوروبية-أرجنتينية أن يصبح ممثلًا لادعاءات تاريخية في جغرافيا تبعد آلاف الأميال عن جذوره؟ هذا الاستدلال ليس مجرد سجالٍ شخصي، بل هو نقدٌ منهجي لفكرة “الدولة اليهودية” القائمة على استبدال سكانٍ أصليين بمستوطنين جُدد تحت حماية عسكرية.
تعتمد الكرمي على لغةٍ مجازية قوية تُحيل المستوطنين إلى “لصوص” يستولون على مقومات الحياة الأساسية (أرض، ماء، ثمار)، مما يخلق صورةً مركبةً عن الاستعمار الاستيطاني كظاهرةٍ شمولية لا تقتصر على السيطرة الجغرافية، بل تمتد إلى سرقة الهوية والذاكرة الجماعية.
استخدامها لتكرار كلمة “مُسروق” ليس عبثيًا، بل يُذكّر بآليات الاستيلاء المنظمة التي مارستها إسرائيل منذ 1948، من مصادرة الأراضي إلى تدمير القرى الفلسطينية وطمس معالمها.
التساؤل الاستنكاري “لا أفهم من أين تأتي بكل هذه الثقة بالنفس” يفضح التناقض بين الواقع القانوني الدولي (الذي يُجرم الاستيطان) والخطاب الإسرائيلي الذي يحوّل الاحتلال إلى حقٍ تاريخي. هنا تتعمد الكرمي تفكيكَ لغة القوة الإسرائيلية التي تعيد تعريف المفاهيم؛ فـ”الثقة” هنا ليست فضيلةً أخلاقية، بل آليةٌ لفرض الوقائع على الأرض عبر التطبيع مع الاستيلاء.
يجب قراءة هذا الخطاب في سياقه الزمني المتصل بأحداث التطهير العرقي المستمر منذ 76 عامًا، حيث تُعيد الكرمي تعريف الصراع ليس كخلافٍ حدودي، بل كظاهرة استعمارية كلاسيكية تعيد إنتاج نفسها عبر تهجير الفلسطينيين واستبدالهم بمستوطنين.
استخدامها لمصطلح “بلدي” في نهاية الخطاب ليس مجرد تأكيدٍ على الهوية الفلسطينية، بل إعادة تأسيسٍ للحقوق الأصلانية في مواجهة سردية المُستعمِر التي تسعى لإضفاء الشرعية على السرقة عبر تمطيط الزمن.
هذا الخطاب يتجاوز الشخص ليهاجم النظام بأكمله؛ فدايان ليس مجرد دبلوماسي، بل رمزٌ لآلة دعائية تعيد كتابة التاريخ. اختيار الكرمي لمواجهته – بصفته ممثلًا لمشروع استيطاني – يعكس استراتيجيةً فلسطينيةً جديدةً تُحوّل الصراع من جدالٍ حول “حدود 67” إلى نقاشٍ جذري عن جذور الشرعية في المنطقة.
هذه اللغة النارية ليست انفعالًا عاطفيًا، بل سلاحٌ معرفي في معركة الروايات، حيث تُعيد الفلسطينيين إلى مركزية الدور كشهودٍ على جرائم الاستعمار، ورافضين لآليات التبرير التي تحوّل اللص إلى مالكٍ شرعي.











