في قلب القاهرة، تنفجر واحدة من أكثر المعارك الاجتماعية سخونة في السنوات الأخيرة، مع اقتراب البرلمان المصري من إقرار تعديل قانون الإيجار القديم، الذي يهدد بخلخلة أساسات الاستقرار السكني لملايين الأسر.
رجل الأعمال نجيب ساويرس يتصدر المشهد بتصريحاته النارية وانتقاداته اللاذعة للنظام القانوني الحالي، في وقت تتعالى فيه أصوات سكان العقارات القديمة، متمسكين بحقوق يعتبرونها تاريخية ومصيرية.
وبينما تصف وسائل إعلام ما يجري بأنه “تحرير للملكية العقارية”، يرى آخرون أن ما يحدث ليس إلا محاولة مدروسة لتحويل وسط البلد من حي شعبي نابض بالحياة إلى ملعب استثماري مغلق على أصحاب المليارات.
فهل ما يحدث هو تصحيح لمسار اقتصادي مظلوم؟ أم تمهيد لطرد الطبقة المتوسطة والفقيرة من قلب العاصمة باسم التطوير؟ الإجابة تبدأ من مشروع القانون… لكنها لن تنتهي عنده.
تشهد الساحة المصرية حالة من الجدل المكثف حول مشروع قانون الإيجار القديم الجديد، الذي يهدد بتغيير جذري في المشهد العقاري والاجتماعي.
يأتي هذا التعديل التشريعي في ظل تصاعد الضغوط من كبار المستثمرين، وعلى رأسهم رجل الأعمال البارز نجيب ساويرس، الذي تزايدت انتقاداته العلنية للنظام القانوني الحالي، معبرًا عن تضرره المالي من عقود الإيجار القديمة.
تزامنًا مع هذه التطورات، تشهد منصات التواصل الاجتماعي حملات هجومية واسعة ضد ساويرس، متهمة إياه بالسعي لاستغلال التعديلات التشريعية لخدمة مصالحه الاستثمارية في منطقة وسط البلد التاريخية، بينما يرى مؤيدو القانون أنه خطوة ضرورية لتحقيق العدالة بين الملاك والمستأجرين.
استند المشرع المصري في مشروعه الجديد إلى حكم المحكمة الدستورية الصادر في نوفمبر 2024، الذي قضى بعدم دستورية المواد 1 و2 من قانون الإيجارات القديم، معتبرًا أن التثبيت السنوي لقيمة الإيجار يشكل “اعتداءً على مبدأ العدالة الاجتماعية”.
جاء الحكم بعد سنوات من المطالبات القضائية من الملاك، الذين اعتبروا أن القيمة الإيجارية الثابتة -التي تعود لستينيات القرن الماضي- لم تعد تتوافق مع الواقع الاقتصادي الحالي.
المحاور الرئيسية للمشروع
ينقسم المشروع إلى تسع مواد أساسية، تركز على محورين رئيسيين:
- تعديل القيمة الإيجارية: تنص المادة الثانية على زيادة قيمة إيجار الوحدات السكنية إلى عشرين ضعف القيمة الحالية، مع تحديد حد أدنى شهري قدره 1000 جنيه للمدن و500 جنيه للقرى. أما الوحدات التجارية فتشهد زيادة بخمسة أضعاف، وفقًا للمادة الثالثة.
- الإطار الزمني للإخلاء: تُلزم المادة الخامسة بإنهاء جميع العقود الخاضعة للقانون خلال خمس سنوات من تاريخ العمل به، ما لم يتفق الطرفان على تجديد بشروط جديدة.
الموقف العلني من القانون
برز ساويرس كأبرز المنتقدين العلنيين للنظام الحالي، حيث صرح في أكثر من مناسبة: “عندنا عمارة في المهندسين بتجيب إيجار 18 جنيهًا، بينما تكلفة الصيانة تتجاوز 300 جنيه شهريًا”.
هذه التصريحات تعكس معاناة شريحة واسعة من الملاك، لكنها في الوقت ذاته أثارت تساؤلات حول دوافع رجل الأعمال الذي يملك استثمارات عقارية ضخمة.
تكشف وثائق شركة “أورا” العقارية -التي يترأسها ساويرس- عن خطة طموحة لتطوير منطقة وسط البلد، حيث أعلن عن نية تحويل المنطقة إلى “باريس الشرق” خلال خمس سنوات. تشمل هذه الخطط إعادة تأهيل 150 مبنى تاريخيًا، وإنشاء مجمعات سكنية راقية، وهو ما يتطلب حسب الخبراء تفريغًا تدريجيًا للمستأجرين الحاليين.
أثارت تصريحات ساويرس الأخيرة جدلاً واسعًا، خاصة بعد تغريدته التي وصف فيها سكان العشوائيات بـ”بلطجية وتجار مخدرات”. هذه التصريحات –التي اعتبرها مراقبون محاولة لتهيئة الرأي العام لقوانين إخلاء صارمة– جاءت بالتزامن مع مشروعاته الاستثمارية في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية.
ساويرس
شهدت منصات مثل “تيك توك” و”إكس” انتشار مقاطع فيديو ساخطة، لعل أبرزها مقطع يحمل هاشتاج #ساويرس_يستغل_القانون، جمع أكثر من مليوني مشاهدة خلال 48 ساعة. اتهمت هذه الحملات رجل الأعمال باستغلال نفوذه السياسي للتأثير على التشريعات لصالح استثماراته، مستشهدة بعلاقاته الوطيدة مع كبار المسؤولين.
في المقابل، ظهرت حملات دعم للقانون الجديد تحت هاشتاجات مثل #حق_المالك، شارك فيها ملاك عقارات قديمة قدموا شهادات عن معاناتهم المالية. أحد هذه المقاطع لسيدة سبعينية علقت: “أعيش على معاش 2000 جنيه، بينما إيجار شقتي 50 قرشًا منذ 1963”.
تشير تقديرات اتحاد الملاك إلى أن 2.5 مليون وحدة سكنية ستخضع للتعديلات الجديدة. المحللون يتوقعون موجة من المضاربات العقارية، خاصة في المناطق المركزية بالقاهرة، حيث قد تصل قيمة الإيجارات إلى 20 ضعفًا في بعض الأحياء الراقية.
المخاطر الاجتماعية
حذرت جمعيات حقوقية من أن القانون قد يدفع بـ1.8 مليون أسرة تحت خط الفقر، حسب دراسة أجرتها “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”. أبرز الحالات التي سلطت عليها الأضواء حالة معلم متقاعد يدفع إيجارًا شهريًا 15 جنيهًا منذ 1978، وقد رفضت المحكمة الدستورية اعتبار مثل هذه الحالات “حقًا مكتسبًا”.
تعود أولى المحاولات لتعديل قانون الإيجار القديم إلى عام 1996، لكنها باءت بالفشل بسبب الاحتجاجات الشعبية. اللافت أن ساويرس نفسه كان من أبرز الداعمين لتعديل 2012، الذي سقط بدوره تحت ضغط الربيع العربي.
وتكشف وثائق مسربة عن تعاون سابق بين شركات تابعة للقوات المسلحة وشركة “أورا” في مشروع تطوير وسط البلد. هذا التعاون يسلط الضوء على التداخل المعقد بين الاستثمارات الخاصة والعسكرية في المشهد العقاري المصري.
موقف الحكومة
أكد المستشار محمود فوزي –وزير الشؤون القانونية– أن “القانون يهدف لتحقيق التوازن بين حقوق الملاك والمستأجرين”، مشيرًا إلى خطة لتوفير وحدات سكنية بديلة للفئات الأولى بالرعاية. لكن النقاد يشككون في جدوى هذه الخطة، خاصة مع وجود عجز سكني يقدر بـ3 ملايين وحدة.
كشفت جلسات الاستماع البرلمانية عن انقسام حاد بين الأعضاء. بينما طالب بعض النواب بزيادة الحد الأدنى للإيجار إلى 5000 جنيه، حذر آخرون من “انفجار اجتماعي” قد تسببه التعديلات. مصادر برلمانية أشارت إلى ضغوط من كبار المستثمرين لتسريع إقرار القانون.
السيناريو الاقتصادي
تتوقع دراسة صادرة عن مركز “البحوث الاقتصادية” بجامعة القاهرة ثلاثة سيناريوهات:
- السيناريو المتفائل: زيادة الناتج المحلي بنسبة 1.5% عبر تفعيل سوق عقاري نشط.
- السيناريو المتشائم: ارتفاع نسبة التشرد إلى 12% مع تفاقم الأزمة السكنية.
- السيناريو الوسطي: تحقيق توازن نسبي عبر برامج إسكان اجتماعي مدعومة.
يرى مراقبون أن التوقيت الحالي للتعديلات –المتزامن مع الأزمة الاقتصادية الحادة– قد يشكل اختبارًا حقيقيًا لشعبية النظام. الخبير السياسي عماد الدين حسين يحذر من “تحول القانون إلى شرارة احتجاجات واسعة”، مستذكرًا دور أزمة الإيجارات في ثورة 1919.
تشكل أزمة قانون الإيجار القديم مرآة عاكسة للتحولات الجذرية التي تشهدها القاهرة الحديثة. بين دفاع عن الحقوق التاريخية للمستأجرين ومطالب الملاك بالعدالة، وبين رؤى استثمارية طموحة وواقع اجتماعي معقد، تبرز إشكالية جوهرية حول مفهوم الملكية في المدينة.
هل ستتحول العاصمة المصرية إلى ساحة مفتوحة لرأس المال العالمي، أم أنها ستحافظ على نسيجها الاجتماعي المتنوع؟ الإجابة قد تحددها الأسابيع القادمة في أروقة البرلمان وفي شوارع المدينة نفسها.