في ظل التصريحات الرسمية المتكررة عن تطور العلاقات الاقتصادية بين مصر وسويسرا، تكشف الأرقام عن واقع مختلف تمامًا. فقد سجلت واردات مصر من سويسرا نحو مليار دولار في عام 2023، بينما لم تتجاوز صادراتها إلى سويسرا 470 مليون دولار فقط. هذه الفجوة التجارية الكبيرة تطرح تساؤلات جادة حول مدى استفادة مصر من هذه العلاقة، وهل هي شراكة متكافئة أم ترسيخ لدور مصر كسوق استهلاكي للمنتجات الأوروبية.
العلاقات التجارية بين البلدين تمتد لأكثر من قرن، ومع ذلك لم تنجح مصر حتى الآن في تقليص العجز المزمن في الميزان التجاري مع سويسرا. فبينما تتركز الواردات المصرية في السلع المصنعة عالية القيمة مثل الأدوية والساعات والمعدات، تظل الصادرات المصرية محصورة في المواد الخام والمنتجات الأولية، ما يعكس ضعف القدرة التنافسية للصناعة الوطنية ويؤكد استمرار التبعية التكنولوجية والاقتصادية.
تشير بيانات عام 2023 إلى أن العجز التجاري الكلي لمصر بلغ 36.9 مليار دولار، رغم محاولات الحكومة تقليصه عبر زيادة الصادرات. ومع ذلك، فإن ارتفاع الواردات من دول مثل سويسرا يساهم في استمرار الضغط على العملة الصعبة ويزيد من هشاشة الاقتصاد المصري في مواجهة الأزمات العالمية.
وتواجه الصادرات المصرية عقبات كبيرة، من بينها ضعف الجودة وصعوبة تلبية المواصفات الأوروبية، إلى جانب ارتفاع تكاليف النقل وضعف الترويج التجاري. في المقابل، تستفيد سويسرا من السوق المصري الضخم لتصريف منتجاتها المصنعة، بينما تظل مساهمة الاستثمارات السويسرية في نقل التكنولوجيا أو تطوير الصناعة المحلية محدودة.
الحكومة المصرية تتحدث عن برامج لدعم الصناعة وزيادة الصادرات، لكن الأرقام تشير إلى أن الفجوة التجارية مع سويسرا تتسع عامًا بعد عام. إذا لم تتغير السياسات الاقتصادية بشكل جذري لدعم الصناعة الوطنية وتعزيز القيمة المضافة للصادرات، ستظل مصر رهينة لعجز تجاري متفاقم وتبعية اقتصادية متزايدة.
الأرقام لا تكذب: مليار دولار واردات من سويسرا مقابل 470 مليون دولار صادرات فقط في 2023. فهل تستمر مصر في لعب دور السوق الاستهلاكي، أم آن الأوان لإعادة النظر في أولوياتها الاقتصادية؟
العلاقات التجارية بين مصر وسويسرا
تعود العلاقات الاقتصادية والتجارية بين مصر وسويسرا إلى بدايات القرن العشرين، حيث تم توقيع أول اتفاقية تجارية بين البلدين في عام 1908. ومنذ ذلك الحين، شهدت هذه العلاقات تطورًا ملحوظًا على مدار العقود، خاصة بعد افتتاح السفارة السويسرية في القاهرة عام 1934، والتي لعبت دورًا محوريًا في تعزيز التعاون الاقتصادي والاستثماري بين البلدين.
سويسرا تُعد واحدة من أكثر الدول تقدمًا في أوروبا، وتشتهر بقطاعات صناعية متطورة مثل الصناعات الدوائية، الساعات، المعدات الطبية، الصناعات الغذائية، والخدمات المصرفية. أما مصر، فهي أكبر دولة عربية من حيث عدد السكان، وتمتلك سوقًا استهلاكيًا ضخمًا، إلا أن اقتصادها يعتمد بشكل كبير على تصدير المواد الخام والمنتجات الزراعية، مع ضعف واضح في الصناعات التحويلية والتكنولوجية.
على مدار العقود الماضية، شهد الميزان التجاري بين مصر وسويسرا اختلالًا واضحًا لصالح سويسرا. فقد ارتفعت قيمة الواردات المصرية من سويسرا بشكل مستمر، بينما ظلت الصادرات المصرية محدودة وتعتمد أساسًا على المواد الأولية مثل الذهب والقطن وبعض المنتجات الزراعية. في المقابل، تركزت الواردات المصرية على المنتجات المصنعة عالية القيمة مثل الأدوية والساعات والمعدات الكهربائية، وهو ما أدى إلى اتساع الفجوة التجارية بين البلدين.
تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن سويسرا تحتل مرتبة متقدمة ضمن أكبر الشركاء التجاريين لمصر في أوروبا، كما تعتبر من أكبر المستثمرين الأجانب في السوق المصري. وتتنوع الاستثمارات السويسرية في مصر بين قطاعات متنوعة تشمل الصناعات الدوائية، الأغذية، مواد البناء، الكيماويات، والطاقة. ورغم أهمية هذه الاستثمارات في توفير فرص العمل وتعزيز النمو الاقتصادي، إلا أن مساهمتها في نقل التكنولوجيا وتطوير الصناعة المحلية لا تزال محدودة مقارنة بحجم التبادل التجاري.
على صعيد السياسات الاقتصادية، أطلقت مصر خلال السنوات الأخيرة عدة برامج للإصلاح الاقتصادي، استهدفت زيادة الصادرات وتقليل الاعتماد على الواردات. كما تم توقيع اتفاقيات ثنائية مع سويسرا تهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، من بينها اتفاقيات حماية وتشجيع الاستثمار، واتفاقيات التعاون الفني والمالي. ومع ذلك، لا تزال التحديات قائمة، حيث تعاني الصادرات المصرية من ضعف الجودة وصعوبة تلبية المواصفات الأوروبية، إضافة إلى ارتفاع تكاليف النقل وضعف الترويج التجاري في الأسواق الخارجية.
من ناحية أخرى، تستفيد سويسرا من السوق المصري الكبير لتصريف منتجاتها الصناعية المتطورة، في حين يبقى الاقتصاد المصري معرضًا لمخاطر العجز التجاري واستنزاف العملة الصعبة. ويعكس هذا الوضع الهيكلي الحاجة الملحة لإعادة هيكلة الاقتصاد المصري، ودعم الصناعات الوطنية، وتطوير منظومة الجودة، من أجل تعزيز القدرة التنافسية للصادرات المصرية وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
في ضوء هذه الخلفية، يتضح أن العلاقات التجارية بين مصر وسويسرا، رغم تاريخها الطويل وحجمها الكبير، لا تزال تحتاج إلى مراجعة شاملة لضمان تحقيق مصالح مصر الاقتصادية، وتقليص الفجوة التجارية، وتحويل مصر من سوق استهلاكي إلى قوة إنتاجية قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية.





