في خطوة مفاجئة قلبت التوازنات الإقليمية رأساً على عقب، استقبل الرئيس الأميركي دونالد ترمب نظيره السوري أحمد الشرع في لقاء تاريخي رعاه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. جاء اللقاء بعد قرار واشنطن رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، في تحول غير مسبوق منذ أكثر من عقدين. لكن ما خفي في كواليس الصفقة أهم مما ظهر: خمسة مطالب استراتيجية وضعها ترمب على طاولة دمشق، تعيد رسم معالم العلاقة بين البلدين، وترسم ملامح الدور السوري في الشرق الأوسط الجديد.
العقوبات الأميركية على سوريا: من سيف الضغط إلى أداة التفاوض
طوال أربعة عقود، استخدمت واشنطن سلاح العقوبات ضد سوريا، بداية من تصنيفها كدولة راعية للإرهاب عام 1979، مروراً بـ”قانون محاسبة سوريا” في 2003، وصولاً إلى “قانون قيصر” الذي دخل حيز التنفيذ في 2020. هذه العقوبات استهدفت القطاعات الحيوية مثل النفط، البنوك، الاتصالات، وحتى التحويلات المالية، وأثرت بشكل عميق على الاقتصاد السوري والبنية التحتية، وفاقمت من الأزمة الإنسانية.
لكن قرار ترمب المفاجئ برفع هذه العقوبات لا يُقرأ فقط كإجراء اقتصادي، بل كبوابة لصفقة سياسية – أمنية، تهدف لإعادة تموضع أميركي في سوريا وموازنة النفوذ الإيراني والروسي، مع التركيز على ملفات الأمن ومكافحة الإرهاب.
المطالب الخمسة لترمب: خريطة طريق أميركية لسوريا الجديدة
1. ترحيل المقاتلين الأجانب
يتصدر ترمب مطالبه بضرورة تحرك دمشق لترحيل نحو 10 آلاف مقاتل أجنبي من تنظيمات إرهابية، محتجزين حالياً في شمال شرق سوريا. الهدف هو تقليل العبء عن القوات الأميركية والكردية، وضمان عدم إعادة تدوير هؤلاء المقاتلين في ساحات إرهاب جديدة.
2. استلام مراكز احتجاز “داعش”
طلبت واشنطن من دمشق تولي إدارة سجون داعش وعائلاتهم، المنتشرة في مناطق “قسد”، لتقليل المخاطر الأمنية وخفض التكاليف الأميركية، مع تحميل النظام السوري المسؤولية المباشرة عن هذا الملف الشائك.
3. تحجيم النفوذ الإيراني
طالب ترمب بتخفيض التواجد العسكري الإيراني وتقليص نفوذ الميليشيات التابعة لطهران في سوريا، في إطار حماية أمن إسرائيل، وإعادة التوازن الإقليمي الذي ترى فيه واشنطن أن دمشق يجب أن تلعب دوراً مختلفاً فيه.
4. تفكيك اقتصاد الكبتاغون
أصبحت سوريا، وفق تقارير أممية، مركزاً إقليمياً لإنتاج الكبتاغون. طالبت واشنطن بتفكيك هذه الشبكات، لما لها من تأثير على الأمن الإقليمي والدولي، ولارتباطها المباشر بتمويل الأنشطة غير الشرعية للنظام.
5. آليات لعودة اللاجئين
يشكل ملف اللاجئين السوريين أولوية إنسانية وسياسية. واشنطن اشترطت خطة تضمن العودة الطوعية الآمنة لملايين السوريين، مع ضمانات بعدم الانتقام، في خطوة تهدف أيضاً لتقليل العبء عن دول الجوار وفتح باب الإعمار الدولي.
الدور السعودي والتركي: كسر الجمود الإقليمي
أشرف ولي العهد السعودي على اللقاء، في ما يُعدّ أول وساطة عربية مباشرة بين دمشق وواشنطن منذ عقود. تأتي الخطوة ضمن استراتيجية السعودية لاستعادة زمام المبادرة الإقليمية وتطويق النفوذ الإيراني، خصوصاً بعد تطبيعها مع إسرائيل ودورها المتزايد في ملفات المنطقة.
أما تركيا، فقد حضرت عبر اتصال هاتفي بين ترمب وأردوغان، وهو مؤشر على تغير محتمل في علاقات أنقرة بدمشق، وسط تقاطعات في ملفات الأمن، اللاجئين، والوجود الكردي على الحدود.
التداعيات المحتملة: ماذا بعد رفع العقوبات؟
1. اقتصادياً:
فتح الأسواق، عودة التحويلات والاستثمارات، والمشاركة في إعادة الإعمار، كلها آفاق محتملة في حال استمرت واشنطن في تخفيف العقوبات، لكن التنفيذ مرهون بالتزام دمشق بالمطالب الخمسة.
2. سياسياً:
قد يؤدي التقارب الأميركي – السوري إلى تحولات جذرية في علاقة دمشق بكل من طهران وموسكو، ويفتح الباب لتطبيع عربي أشمل مع النظام السوري، وسط تحديات داخلية تتعلق ببنية النظام ومصالح حلفائه.
3. ميدانياً:
في حال تسلمت دمشق مراكز احتجاز داعش، وبدأت بترحيل المقاتلين، سيتغير التوازن الأمني في شمال سوريا، مع احتمال تقليص الوجود الأميركي وتقوية مركز الدولة السورية، لكن هذا أيضاً سيضعف “قسد” ويزيد من تعقيد علاقاتها مع واشنطن.
لقاء ترمب والشرع، ورفع العقوبات، ليس مجرد حدث دبلوماسي، بل اختبار فعلي لنوايا الطرفين. هل تمتلك دمشق القدرة على تلبية المطالب الأميركية دون خسارة حلفائها؟ وهل تدرك واشنطن أن أي تغيّر حقيقي في سوريا لا يمكن أن يُفرض عبر الضغوط فقط؟
الأزمة السورية تدخل مرحلة جديدة. ليست الحرب وحدها من يرسم ملامحها، بل التفاهمات الكبرى. “صفقة ترمب” قد تكون نقطة تحول… أو مجرد صفحة جديدة في كتاب طويل لم يُكتب سطره الأخير بعد.