شهدت الليرة السورية خلال الأيام الأخيرة ارتفاعاً ملحوظاً أمام العملات الأجنبية، ما أثار تساؤلات واسعة في الشارع السوري حول مدى انعكاس هذا التحسن على أسعار السلع والخدمات، في ظل أوضاع معيشية صعبة وتضخم متسارع أرهق معظم الأسر السورية. فهل يعني صعود الليرة تراجع الأسعار فعلاً؟ وما هي الخلفيات الاقتصادية والسياسية لهذا التحول؟ وهل هناك مخاطر أو تحديات تهدد استدامة هذا التحسن؟
خلفية: قفزة مفاجئة في سعر الصرف
في سابقة لم تشهدها الأسواق السورية منذ سنوات، قفزت الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي بشكل لافت، حيث تراجع سعر الدولار في السوق السوداء إلى حدود 8500 ليرة للشراء و8900 ليرة للبيع في دمشق وحلب وإدلب، بعد أن كان قد تجاوز 16 ألف ليرة في ذروة الانهيار أواخر 2024. أما في المصرف المركزي، فقد حُدد سعر الدولار عند 11,110 ليرة للشراء و11,055 ليرة للبيع. هذا التحسن جاء بعد إعلان أمريكي عن رفع العقوبات عن سوريا، وهو ما اعتبره مراقبون فرصة للازدهار بعد سنوات من الشلل الاقتصادي.
أسباب التحسن: بين السياسة والاقتصاد
يرى خبراء الاقتصاد أن تحسن الليرة الأخير يعود إلى مجموعة من العوامل المتداخلة، منها:
- تخفيف العقوبات الدولية: الإعلان عن رفع العقوبات الأمريكية شكّل دفعة قوية للثقة بالاقتصاد السوري، وفتح الباب أمام تدفقات نقدية جديدة واستثمارات محتملة.
- إجراءات نقدية حكومية: فرض المركزي السوري سياسات جديدة لتوحيد سعر الصرف، مع هامش تقلب لا يتجاوز 1%، وتسهيل عمليات السحب من الحسابات المصرفية.
- تشديد الرقابة على المضاربات: ألزمت الحكومة مكاتب الصرافة بإيداع مبالغ ضخمة في المركزي، ما حد من المضاربات العشوائية.
- زيادة التحويلات الخارجية: ارتفعت قيمة الحوالات المالية من المغتربين السوريين إلى نحو 10 ملايين دولار يومياً، مما عزز المعروض من الدولار وخفّض الضغط على الليرة.
- تراجع الطلب على الدولار: توقف الاستيراد شبه الكامل خلال المرحلة الانتقالية أدى إلى انخفاض الطلب على العملات الأجنبية.
هل تنخفض أسعار السلع فعلاً؟
رغم التحسن الملحوظ في سعر الصرف، إلا أن انعكاس ذلك على أسعار السلع لا يحدث بشكل فوري. يؤكد خبراء الاقتصاد أن هناك فجوة زمنية بين تحسن العملة وتراجع الأسعار في الأسواق، بسبب عدة عوامل:
- تراكم المخزون القديم: معظم التجار يشترون بضائعهم بالدولار عندما يكون سعر الصرف مرتفعاً، ويحتاجون إلى تصريف المخزون قبل تعديل الأسعار.
- غياب الرقابة وضعف المنافسة: لا تزال الأسواق السورية تعاني من انفلات في التسعير، حيث يفرض كل تاجر أسعاره وفق تقديراته الخاصة، دون رقابة فعلية من الدولة.
- ضعف القوة الشرائية: حتى مع انخفاض الأسعار لبعض السلع، فإن الرواتب والأجور لم تواكب هذا التحسن، مما يحد من استفادة المواطنين.
- استمرار ارتفاع أسعار السلع الأساسية: رغم انخفاض أسعار بعض المواد الغذائية (كالسكر والأرز والبطاطا)، إلا أن أسعار الغاز والخبز والمحروقات ما تزال مرتفعة، ما يضعف أثر التحسن على معيشة السوريين.
مشاهدات ميدانية:
- انخفض سعر كيلو السكر من 18 ألف ليرة إلى 7 آلاف، وكرتونة البيض من 60 ألفاً إلى 23 ألف ليرة، وكيلو البطاطا من 14 ألفاً إلى 4 آلاف ليرة.
- بالمقابل، بقيت أسعار الغاز والخبز مرتفعة، مع استمرار تأخر صرف الرواتب وخسارة العديد من الموظفين لأعمالهم.
هل التحسن مستدام أم مؤقت؟
يحذر خبراء الاقتصاد من أن تحسن الليرة الحالي قد يكون وهمياً وقصير الأجل إذا لم يُدعَم بإصلاحات اقتصادية حقيقية، وزيادة في الإنتاج المحلي، وتحسين الميزان التجاري. فالتجربة السورية خلال السنوات الماضية أظهرت أن أي ارتفاع مفاجئ في قيمة العملة غالباً ما يتبعه تراجع حاد إذا لم تتغير البنية الاقتصادية بشكل جوهري.
أبرز المخاطر:
- تقلبات سعر الصرف: استمرار المضاربات وضعف تدخل المركزي قد يؤدي إلى انهيار جديد في حال تراجع التحويلات أو عودة الطلب على الدولار.
- عدم التوازن بين الأجور والأسعار: حتى مع انخفاض الأسعار، تبقى الرواتب منخفضة جداً، مما يقلل من التحسن الفعلي في القوة الشرائية.
- ضعف الإنتاج المحلي: الاعتماد الكبير على الاستيراد يجعل الاقتصاد هشاً أمام أي صدمات خارجية أو تقلبات في الأسواق العالمية.
مستقبل الاقتصاد السوري: تحديات وآمال
رغم الصورة القاتمة للاقتصاد السوري بعد أكثر من عقد من الحرب، هناك آمال بأن يشكل التحسن الأخير في سعر الصرف نقطة انطلاق نحو إصلاحات أعمق، خاصة مع الحديث عن دعم دولي مرتقب وخطط لإعادة الإعمار ورفع تدريجي للعقوبات. ومع ذلك، تبقى التحديات هائلة، إذ يعيش أكثر من 90% من السوريين تحت خط الفقر، ويعاني ربع السكان من البطالة، فيما تظل الخدمات العامة والبنية التحتية في حالة انهيار شبه كامل.
خلاصة وتوصيات
- ارتفاع الليرة السورية أمام الدولار خلال الأيام الأخيرة حدث اقتصادي مهم، لكنه لا يعني بالضرورة تحسن فوري في معيشة السوريين أو انخفاض شامل في الأسعار.
- الانعكاس الإيجابي على أسعار السلع يتطلب استقراراً طويل الأمد في سعر الصرف، وإصلاحات اقتصادية عميقة، وزيادة في الإنتاج المحلي، وتحسين الأجور.
- استمرار التقلبات أو غياب الرقابة قد يؤدي إلى عودة الأسعار للارتفاع، ما لم تُتخذ خطوات حقيقية لضبط السوق ودعم الفئات الأكثر تضرراً.










