بينما لا تزال جثث الأطفال الفلسطينيين تتدفّق تحت أنقاض غزة، وتتوالى تقارير الأمم المتحدة عن مجازر تُرتكب كل ساعة بحق المدنيين، تخرج علينا الأنظمة العربية بـ”مفاجأة” جديدة تُضاف إلى سجلّ الخيانات: مشاركة وحدات من جيش الاحتلال الإسرائيلي في مناورات “الأسد الإفريقي” العسكرية على الأراضي المغربية.
هذا المشهد المُشين ليس سوى حلقة في سلسلة التطبيع المُمنهج الذي حوّل القضية الفلسطينية إلى سلعة تفاوضية رخيصة، بينما تُباع الأراضي العربية بثمن بخس في سوق المصالح الاستعمارية الجديدة.
العبثية تصل ذروتها عندما تتحالف دول عربية -منها المغرب ومصر وتونس- مع قوة احتلال إجرامية في مناورات تدّعي “تعزيز الأمن الإقليمي”.
كيف يُعقل أن تُشارك مصر، التي تقود خطاباً وهمياً عن دعم فلسطين، في تدريبات عسكرية مع من يقتل أبناء عمومتها في رفح وخان يونس؟! أليست هذه هي ذات إسرائيل التي قصفت سفارة مصر في غزة الأسبوع الماضي؟ الأمر لا يقتصر على التناقض، بل هو انحدار أخلاقي يكرّس ثقافة “الخيانة المُعلنة”.
المناورات التي تقودها الولايات المتحدة، وتشمل 10 آلاف جندي من 40 دولة، تتحول إلى منصة لتبييض جرائم الحرب الإسرائيلية.
فبينما يُعلن الجيش الأمريكي عن أهداف وهمية مثل “الاستجابة للأزمات الإنسانية”، تُستخدم هذه التدريبات فعلياً لصقل التكتيكات العسكرية التي تُطبّق لاحقاً على الأطفال الفلسطينيين. اللواء الإسرائيلي “غولاني” المشارك هنا، هو نفس الكتيبة التي نفّذت مجازر في مخيم جباليا الشهر الماضي!
لا يقتصر الخطر على الشرعية الأخلاقية، بل يمتد إلى البُعد الاستراتيجي. الاتفاقيات الدفاعية الموقّعة بين إسرائيل والمغرب، والتي تتضمن تبادل تقنيات المراقبة الإلكترونية، ستتحول حتماً إلى أداة لقمع الحركات المناهضة للتطبيع في شمال إفريقيا.
الأسلحة التي تُختبر في صحراء المغرب اليوم، ستُوجه غداً نحو صدور المتظاهرين في الدار البيضاء أو الراشيدية الذين يرفضون التخلي عن القدس.
المفارقة الكارثية تكمن في توقيت هذه المناورات. فخلال الأسبوع الماضي فقط، سجّلت منظمات حقوقية 214 انتهاكاً إسرائيلياً في الضفة الغربية، بينما تستمر عمليات التهجير القسري في الشيخ جراح.
في المقابل، تتبارى الحكومات العربية في استضافة قتلة الفلسطينيين، وكأن الدم العربي أصبح بطاقة عبور للقصور الرئاسية.
لكن الأخطر من كل ذلك هو الأثر المباشر وغير المباشر الذي يتركه هذا التطبيع العسكري على الوضع الإنساني والأمني في قطاع غزة، الذي يعيش واحدة من أكثر لحظاته دموية منذ النكبة.
في الوقت الذي تُقصف فيه مدارس “الأونروا”، وتُستهدف المشافي وطوابير الخبز، تُوفر هذه المناورات للإسرائيليين بيئة تدريب مثالية على تقنيات الحرب الحضرية والاقتحامات الجوية والبرية، تُطبّق لاحقًا على أحياء غزة المكتظة بالمدنيين.
جيش الاحتلال الذي يُجري تدريبات مشتركة في المغرب، يُطوّر تكتيكات جديدة لاختراق الأنفاق، وتوجيه الطائرات بدون طيار، واستخدام الذكاء الاصطناعي في تعقب المقاتلين الفلسطينيين، وهو ما يجعل الحرب على غزة أكثر وحشية ودقة من أي وقت مضى.
أي أن الساحات العربية باتت تُستغل كمختبر حي لتجريب أدوات الفتك والإبادة، قبل نقلها إلى مسرح الجرائم الحقيقي: قطاع غزة.
والأدهى أن هذه التدريبات تمنح إسرائيل شرعية عسكرية إضافية، تجعل من أي عدوان جديد على غزة “جزءاً من الاستراتيجية الأمنية الإقليمية”، تحت شعار “مكافحة الإرهاب”.
وهو الخطاب الذي تحاول إسرائيل ترويجه دولياً لتبرير مجازرها، وتجد فيه للأسف صدى وتفاهماً من بعض الأنظمة العربية.
إن الدم الفلسطيني في غزة لا يُسفك بمعزل عن هذه التحالفات. كل صفقة أمنية، وكل مناورة عسكرية، وكل ضابط عربي يصافح نظيره الإسرائيلي، يساهم بشكل مباشر في تشديد الحصار، ورفع كفاءة آلة القتل التي تحصد أرواح الأبرياء في القطاع المنكوب.
أما من منظور العلاقات المغربية الإسرائيلية، فإن السياق ليس طارئاً، بل هو تتويج لمسار طويل من التقارب. فمنذ ستينيات القرن الماضي، كانت العلاقات الأمنية سرّية بين الطرفين، وشهدت تطوراً ملحوظاً بعد اتفاقيات أبراهام عام 2020 التي فتحت الباب أمام تعاون اقتصادي ودبلوماسي علني.
المغرب، الذي كان يتذرع سابقاً بوجود جالية يهودية كبيرة وعلاقات ثقافية، تحوّل اليوم إلى شريك عسكري معلن لتل أبيب، مع اتفاقيات دفاعية تشمل الطائرات بدون طيار ونُظم التجسس والمراقبة.
هذا التحول يكشف عن طموحات استراتيجية أبعد من مجرد تبادل المنافع، ويؤكد أن التطبيع لم يعد حالة استثنائية، بل سياسة رسمية تُبنى عليها تحالفات الأمن القومي.
ما يُغيظ الضمير العالمي هو الصمت الدولي المطبق. فبينما تُجرّم الأمم المتحدة المقاومة الفلسطينية تحت مزاعم “الإرهاب”، تفتح أبوابها لقادة إسرائيل الذين يحملون سجلات حافلة بجرائم الحرب.
المناورات التي تُنظم تحت مظلة “أفريكوم” الأمريكية، تُكرّس نظاماً عنصرياً جديداً يُشرعن الاحتلال تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب”. أليس من السخرية أن تُدرب إسرائيل -الدولة الإرهابية بحسب القانون الدولي- جيوشاً عربية على “محاربة الإرهاب”؟!
الشعوب العربية لم تعد تُخدع بهذه المسرحية. الهاشتاغ #ماذا_جنى_المواطن_السعودي الذي انتشر سابقاً، يجد صداه اليوم في المغرب عبر حملات #لا_للتطبيع_العسكري.
هذه الأصوات المنددة تُثبت أن الأنظمة العربية تتآمر ضد إرادة شعوبها، بينما تتصاعد المقاومة في كل شارع عربي كردّ طبيعي على سياسات الخنوع.
التاريخ لن يرحم من يتآمر على القدس. المشاركة العربية في تطبيع القتل الإسرائيلي ليست مجرد خطأ سياسي، بل هي جريمة أخلاقية ستلاحق كل من شارك فيها.
الدم الفلسطيني الذي يسيل اليوم سيصبح لعنة على كل نظام ارتضى أن يكون شرطياً لحماية مصالح الاحتلال. أما الشعوب، فستظل تقرع طبول المقاومة حتى تتحرر كل ذرة تراب عربي من دنس التطبيع والخيانة.










