في مايو 2025، شهدت زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السعودية حدثًا مفصليًا في العلاقات الثنائية، حيث تم الإعلان عن اتفاقيات ضخمة بقيمة 300 مليار دولار، مع تركيز الإدارة الأمريكية على فكرة “خلق مليوني وظيفة أمريكية”.
هذا الخطاب الأمريكي أثار جدلاً واسعًا حول مدى استفادة المواطن السعودي من هذه الشراكة السعودية الأمريكية، خصوصًا في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها المملكة ضمن رؤية 2030.
هذا التقرير يقدم تحليلًا شاملاً لهذه الاتفاقيات، ويكشف التناقضات بين المكاسب الأمريكية والفرص الحقيقية المتاحة للسعوديين.
ويركز ترامب خلال جولته على عقد صفقات اقتصادية يطمح بأن تكون بتريليونات الدولارات، بينها تريليون دولار من السعودية كان قد طالب بهاعلى هيئة استثمارات خلال مداخلته في منتدى دافوس الاقتصادي في مطلع العام الحالي، بعدما عرض ولي العهد محمد بن سلمان مبلغ 600 مليون دولار من الاستثمارات.
وعلى وقع هذا التصور، حل ترامب برفقة نخبة من قادة الأعمال الأميركيين المؤثرين في الرياض، مقر منتدى الاستثمار السعودي الأميركي. ووصف الرئيس الأميركي ولي العهد السعودية بالصديق، وأشاد باستثمارات المملكة في الولايات المتحدة، مؤكدًا أنها ستخلق فرص عمل.
وقال ترامب مازحا إن الـ600 مليار دولار التي تعهد بها ولي العهد يمكن أن تصل إلى تريليون دولار. وأضاف ترامب “أعتقد حقًا أننا نحب بعضنا البعض كثيرًا”.
وقع ولي العهد السعودي والرئيس الأميركي “وثيقة الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية” بين البلدين، إضافة إلى اتفاقيات أخرى في مجالي الطاقة والدفاع، أبرزها اتفاقية بين وزارتي الدفاع في البلدين بشأن تطوير وتحديث قدرات القوات المسلحة السعودية.
كما وقعا مذكرة تعاون في مجال التعدين والموارد التعدينية بين وزارة الصناعة والثروة المعدنية في المملكة ووزارة الطاقة بالولايات المتحدة.
ويحتل الطيران والدفاع مكانة بارزة في جدول أعمال ترامب في الرياض، حيث من المتوقع أن تشتري السعودية معدات عسكرية أميركية الصنع بمليارات الدولارات. وقد وافقت الولايات المتحدة بالفعل على بيع أسلحة للمملكة بقيمة تُقدر بـ 3.5 مليارات دولار، بما في ذلك صواريخ وأنظمة توجيه.
وتستفيد السعودية من صفقة مع الولايات المتحدة عبر الوصول إلى أشباه الموصلات المتقدمة، مما يمهد الطريق لزيادة سعة مراكز البيانات في الدولة الخليجية، وفقًا لوكالة “بلومبيرغ”.
تضمنت الاتفاقيات صفقات دفاعية بقيمة 142 مليار دولار، شملت تحديث أنظمة الدفاع الجوي وشراء طائرات F-15EX، مع توطين 40% من مكونات الطائرات في مصانع أمريكية، مما خلق حوالي 85 ألف وظيفة مباشرة في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، تتساءل السعودية عن الجدوى الأمنية والاقتصادية لهذه الصفقات، في ظل تصاعد التوترات الإقليمية مع إيران.
كما تعهدت السعودية باستثمار 600 مليار دولار في الولايات المتحدة، لا سيما في مشاريع الطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي، مثل استثمار شركة “داتا فولت” بـ20 مليار دولار في مراكز الذكاء الاصطناعي السعودية.
رغم ذلك، تشير تقارير وزارة الطاقة إلى أن عدد الوظائف الأمريكية المتوقعة قد يكون أقل من المعلن.
تحليل بنود اتفاقيات التوظيف كشف عن غياب آليات قانونية تلزم الشركات الأمريكية بتحقيق نسب توظيف محددة في السعودية، فيما 78% من الوظائف في قطاع الطيران مرتبطة بفترة تصنيع مؤقتة.
أما الجانب السعودي، فتضمنت الاتفاقيات نقل تقنيات متقدمة في مجالات الذكاء الاصطناعي والفضاء والصحة، لكن القيود الأمريكية على تصدير التكنولوجيا تعيق التوطين الكامل.
تُظهر بيانات “صندوق تنمية الموارد البشرية” أن 68% من الوظائف الجديدة تتطلب خبرة دولية، في حين أن 22% فقط من خريجي الجامعات السعودية يستوفون متطلبات التوظيف في شركات التكنولوجيا الأمريكية، مع سيطرة الوظائف الإدارية على 73% من فرص العمل.
تواجه السعودية تحديات لوجستية وبنية تحتية، منها نقص الفنيين المؤهلين واعتماد كبير على قطع الغيار الأمريكية، مما يزيد من الاعتماد الخارجي.
في المجتمع السعودي، أثار الارتفاع في تكاليف المعيشة وفرض ضرائب جديدة، إضافة إلى تخصيص معظم مشاريع الإسكان للشركات الأمريكية، موجة احتجاجات على منصات التواصل الاجتماعي تحت وسم #ماذا_جنى_المواطن_السعودي، مطالبين بمزيد من الشفافية والعدالة الاقتصادية.
عند مقارنة العوائد، تستفيد الولايات المتحدة بشكل مباشر من الوظائف والاستثمارات، بينما تواجه السعودية صعوبات في تحقيق مكاسب مستدامة.
يتطلب الأمر إعادة هيكلة الاتفاقيات، تعزيز الشفافية، وتطوير التعليم التقني لضمان استفادة المواطن السعودي من هذه الشراكة.
شهدت المملكة العربية السعودية انخفاضاً قياسياً في البطالة، إذ تراجعت النسبة بين السعوديين من 12.8% في عام 2018 إلى 7.1% بنهاية عام 2024، ثم إلى 7% بنهاية الربع الأول من العام الجاري، وفقاً لبيانات الهيئة العامة للإحصاء، وهو ما اعتبرته الحكومة إنجازاً تجاوز المستهدف في رؤية 2030 بست سنوات كاملة، ما دفعها إلى إعادة النظر في الأهداف وتحديد معدل بطالة جديد عند 5% بحلول 2030 بدلاً من 7%.
ويعزو المراقبون هذا التحسن إلى جهود الحكومة السعودية في تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط، ضمن رؤية المملكة 2030، التي تهدف إلى تعزيز فرص العمل في القطاع الخاص، حيث أبدى 95.5% من السعوديين العاطلين عن العمل استعداداً لقبول وظائف في القطاع الخاص، ما يشير إلى تحول في التوجهات نحو هذا القطاع.
ورغم أن الانخفاض الحالي في معدلات البطالة في السعودية يمثل نجاحاً اقتصادياً، إلا أن تقديراً لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية يشير إلى أنه ليس حالة دائمة ومستقرة بعد، بل هو نتيجة لسياسات إصلاحية واسعة تتطلّب الاستمرارية والتطوير، مع ضرورة التركيز على معالجة التفاوت الجغرافي والاجتماعي في توزيع فرص العمل. ووفق التقرير، فإن استمرار التحسن في التشغيل مرهون بقدرة المملكة على الحفاظ على زخم الإصلاحات ومواكبة التغيرات السريعة في سوق العمل العالمي.
وفي هذا الإطار، يشير الخبير الاقتصادي حسام عايش إلى أن تسجيل الاقتصاد السعودي انخفاضاً غير مسبوق في معدل البطالة يعكس حيوية نشاط القطاعات المختلفة، ورغم التفاوت بين تلك القطاعات والمناطق والشرائح العمالية فإن هذا التراجع في معدل البطالة يعزى إلى تحسن أداء سوق العمل وتطوره.
ويلفت عايش إلى انخفاض البطالة بين النساء السعوديات إلى 11%، بعد أن كانت 30% عام 2017، أي بانخفاض 19% منذ إطلاق رؤية 2030، ما يؤشر إلى أن القطاع الخاص أصبح محركاً رئيسياً للتوظيف، بدلاً من القطاع العام، مما يمثل تحولاً هيكلياً يعكس نجاح سياسات تمكين المرأة وتنمية سوق العمل.
في الختام، تظل زيارة ترامب إلى السعودية عام 2025 فرصة استراتيجية لتعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية، لكن نجاحها الحقيقي سيُقاس بمدى قدرة هذه الاتفاقيات على بناء اقتصاد سعودي معرفي ومستدام، يحقق فرص عمل حقيقية ويقلل من التبعية الاقتصادية والتقنية.










