في تطور لافت على الساحة الاقتصادية الأمريكية، أطلق رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول تصريحات هامة حول مستقبل التضخم والفائدة، تحمل في طياتها تحذيرات ضمنية من استمرار سياسات الفائدة المرتفعة، وتدعو لإعادة تقييم شاملة لاستراتيجية البنك المركزي في مواجهة متغيرات الاقتصاد العالمي. فهل باتت أداة الفائدة عبئاً على النمو والاستقرار؟ هذا التقرير يسلط الضوء، بالأرقام والتحليل النقدي، على تداعيات هذا النهج، ويطرح تساؤلات جوهرية حول فعالية السياسة النقدية الحالية.
الفائدة المرتفعة: سياسة مستمرة رغم التراجع النسبي للتضخم
أكد باول أن أسعار الفائدة من المرجح أن تبقى عند مستويات مرتفعة في المستقبل المنظور، مبرراً ذلك بالتغيرات الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد الأمريكي، واحتمال تكرار الصدمات العرضية التي ترفع الأسعار بوتيرة غير متوقعة. ويأتي هذا التوجه رغم تراجع معدل التضخم في أبريل إلى 2.2% وفق مؤشر الإنفاق الاستهلاكي الشخصي، وهو أدنى مستوى منذ سنوات، لكنه لا يعكس بعد التأثيرات الكاملة للرسوم الجمركية الجديدة التي قد تعيد إشعال موجة تضخمية قادمة.
أرقام تكشف المفارقة: التضخم ينخفض والفائدة تبقى مرتفعة
معدل الفائدة الأساسي حالياً: يتراوح بين 4.25% و4.5%، وهو أعلى بكثير من مستويات ما قبل الجائحة، حين كانت الفائدة تقترب من الصفر.
التضخم السنوي: تراجع إلى 2.3% في أبريل 2025، مقابل 2.4% في مارس، فيما تستقر التوقعات حول 2.4% لعام 2026 و2.3% لعام 2027.
النمو الاقتصادي: شهد الناتج المحلي الإجمالي نمواً بنسبة 2.5% في 2024، لكنه سجل تراجعاً في الربع الأول من 2025، وسط تقلبات في التجارة الخارجية وتراجع ثقة المستهلكين والشركات.
سوق العمل: معدل البطالة عند 4.2%، مع استقرار نسبي في التوظيف، لكن هناك مؤشرات على تباطؤ نمو الأجور واعتدال الطلب على العمالة.
هل تخدم الفائدة الاقتصاد أم تعرقل تعافيه؟
رغم نجاح الفيدرالي في تحقيق “هبوط سلس” للتضخم دون إحداث ضرر كبير للاقتصاد، إلا أن الإبقاء على الفائدة مرتفعة يثير انتقادات واسعة، خاصة مع ظهور علامات تباطؤ في النمو والاستثمار. فسياسة الفائدة المرتفعة، بحسب محللين، تؤدي إلى:
ارتفاع تكلفة الاقتراض: ما يثبط الاستثمارات الجديدة ويضغط على الشركات الصغيرة والمتوسطة.
تراجع الإنفاق الاستهلاكي: حيث تؤثر الفائدة المرتفعة على القروض العقارية وقروض السيارات وبطاقات الائتمان، ما ينعكس سلباً على الطلب الكلي.
مخاطر على سوق العمل: مع تراجع الاستثمارات، يزداد خطر ارتفاع البطالة وتباطؤ نمو الأجور، خاصة في القطاعات الحساسة لأسعار الفائدة.
تأخر في خفض الفائدة: رغم انخفاض التضخم، يفضل الفيدرالي التريث، ما قد يؤدي إلى “تصلب نقدي” يعرقل التعافي ويزيد هشاشة الاقتصاد أمام الصدمات المستقبلية.
إعادة تقييم جذرية: الفيدرالي يعترف بضرورة تغيير النهج
أقر باول أن تجربة السنوات الأخيرة أظهرت أن ربط السياسة النقدية فقط بمؤشرات البطالة والتضخم لم يعد كافياً، خاصة مع تزايد وتيرة الصدمات العالمية (مثل جائحة كورونا وأزمات سلاسل الإمداد والحروب التجارية). وأشار إلى أن فكرة السماح عمداً بقدر معتدل من التضخم المرتفع أصبحت بلا جدوى، بعد موجة التضخم التي اقتربت من خانة العشرات في مرحلة إعادة فتح الاقتصاد.
كما شدد على أن الاستراتيجية المستقبلية للفيدرالي يجب أن تكون أكثر مرونة، مع مراجعة مستمرة للأدوات المستخدمة، وتقدير أدق للمخاطر المرتبطة بالتغيرات الهيكلية في الاقتصاد العالمي.
هل تضر الفائدة المرتفعة بالاقتصاد أكثر مما تنفعه؟
من الواضح أن استمرار الفائدة المرتفعة، رغم تراجع التضخم، يحمل في طياته مخاطر حقيقية على النمو والاستثمار وسوق العمل. فمع كل شهر يمر دون خفض للفائدة، تتزايد الضغوط على الشركات والأسر، ما قد يؤدي إلى تباطؤ اقتصادي يصعب تداركه لاحقاً. وفي ظل حالة عدم اليقين المرتبطة بالسياسات التجارية الجديدة والرسوم الجمركية، يصبح التصلب النقدي عاملاً معرقلاً بدلاً من أن يكون أداة استقرار.
خلاصة نقدية
سياسات الفائدة المرتفعة لم تعد تواكب ديناميكية الاقتصاد الأمريكي الجديد، بل باتت تهدد بإبطاء التعافي وتكبيل فرص النمو والابتكار. المطلوب اليوم مراجعة جذرية للنهج النقدي، تضع في الحسبان ليس فقط مؤشرات التضخم والبطالة، بل أيضاً طبيعة الصدمات المستقبلية، وضرورة دعم الاستثمار والطلب الداخلي. وإلا، فإن “صدمة الفائدة” قد تتحول إلى أزمة حقيقية تهدد استقرار الاقتصاد الأمريكي لعقد قادم.











