في خطوة هزت صورة الولايات المتحدة كأقوى اقتصاد عالمي، أعلنت وكالة موديز تخفيض التصنيف الائتماني السيادي لأمريكا من الدرجة الأعلى إلى الدرجة الثانية، لتنضم بذلك إلى وكالتي ستاندرد آند بورز وفيتش اللتين سبقتاها إلى هذا القرار خلال العقد الماضي. وقد وصف البيت الأبيض هذا القرار بأنه سياسي بامتياز، مما أثار عاصفة من الجدل بين الإدارة الأمريكية وخبراء الاقتصاد، وكشف عن عمق الأزمة المالية والسياسية التي تعصف بواشنطن.
خلفيات القرار: جبل من الديون وانقسام سياسي مزمن
أرجعت وكالة موديز قرارها إلى عوامل جوهرية لا يمكن تجاهلها، أهمها:
- الدين العام المتضخم، حيث تجاوز الدين الفيدرالي الأمريكي 36 تريليون دولار، مع توقعات ببلوغه 134% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035.
- عجز مالي مزمن، إذ يقترب العجز السنوي من 2 تريليون دولار، أي أكثر من 6% من الناتج المحلي، مع توقعات بتفاقمه إلى 9% بحلول 2035.
- ارتفاع كلفة خدمة الدين مع صعود أسعار الفائدة، ما أدى إلى زيادة أعباء سداد الفوائد إلى مستويات أعلى بكثير من الدول ذات التصنيف المماثل.
- جمود سياسي واضح، حيث تفشل الإدارات المتعاقبة والكونغرس في الاتفاق على حلول جذرية لضبط الإنفاق أو زيادة الإيرادات، وسط انقسام حاد حول السياسات الضريبية والإنفاق الاجتماعي.
رد فعل البيت الأبيض: هجوم على موديز واتهامات بالتسييس
سارعت إدارة الرئيس دونالد ترامب إلى مهاجمة القرار، واعتبرته تحركاً سياسياً يستهدف الإدارة، وركزت انتقاداتها على الاقتصادي مارك زاندي من موديز أناليتيكس، واصفة إياه بأنه ناقد قديم وفاقد للمصداقية. لكن الواقع أن موديز ليست الوحيدة في هذا التشخيص، بل هي آخر وكالة من الثلاث الكبرى التي تسحب التصنيف الأعلى من أمريكا، بعد أن سبقتها ستاندرد آند بورز عام 2011 وفيتش عام 2023.
هل الأزمة مفتعلة أم نتيجة سياسات أمريكية فاشلة؟
رغم محاولات البيت الأبيض تصوير القرار كمؤامرة سياسية، إلا أن الحقائق الاقتصادية أكثر وضوحاً من الخطاب السياسي:
- السياسات الضريبية قصيرة النظر، حيث أن الإصرار على تمديد تخفيضات الضرائب التي أُقرت عام 2017 سيضيف وحده 4 تريليونات دولار للعجز خلال العقد المقبل.
- غياب الإصلاحات الهيكلية، إذ لا توجد مؤشرات على توافق سياسي حول إصلاحات جوهرية في برامج الإنفاق أو زيادة الإيرادات، ما يجعل العجز البنيوي مرشحاً للتفاقم.
- تآكل الثقة العالمية، حيث يهدد خفض التصنيف برفع كلفة الاقتراض الأمريكي على المدى الطويل، ويضعف الثقة الدولية في السندات الأمريكية كملاذ آمن.
خلاصة نقدية: أمريكا تدفع ثمن الغطرسة المالية والانقسام السياسي
لم يعد ممكناً تبرير الأزمة المالية الأمريكية بنظريات المؤامرة أو الهجوم على المؤسسات الدولية. فالتخفيض التاريخي من موديز هو شهادة فشل للنخبة السياسية الأمريكية – جمهوريين وديمقراطيين على حد سواء – في إدارة أكبر اقتصاد عالمي بعقلانية ومسؤولية مالية. استمرار سياسات الإنفاق المفرط، والتهرب من الإصلاحات الصعبة، وإدمان الحلول السهلة عبر طباعة النقود أو خفض الضرائب، كلها عوامل قادت أمريكا إلى فقدان مكانتها المالية.
القرار ليس مجرد صفعة سياسية، بل إنذار اقتصادي بأن زمن الاستثناء الأمريكي يقترب من نهايته إذا لم تتحرك واشنطن سريعاً لمعالجة جذور الأزمة.
كلمة أخيرة
بدلاً من الهروب إلى الأمام واتهام الآخرين، على صناع القرار في أمريكا الاعتراف بأن العالم لم يعد يثق في قدرة واشنطن على ضبط ماليتها العامة، وأن استمرار الإنكار لن يؤدي إلا إلى المزيد من التدهور الاقتصادي وفقدان الهيبة الدولية











