هزت قضية محمد هادي صالح الأوساط اللبنانية بعد الكشف عن تورطه في التجسس لصالح إسرائيل وتزويدها بمعلومات حساسة أدت إلى اغتيال عشرات القيادات في حزب الله.
يمثل هذا الاختراق الأمني واحداً من أخطر عمليات التجسس التي واجهها الحزب، حيث تمكن صالح من استغلال موقعه كمنشد ديني مقرّب وعلاقاته الوثيقة داخل بيئة الحزب لجمع معلومات استخبارية دقيقة.
وقد أدت المعلومات التي قدمها إلى سلسلة من عمليات الاغتيال التي استهدفت أكثر من 35 قيادياً في حزب الله، مقابل مبلغ 23 ألف دولار فقط، في قصة تكشف كيف يمكن للضائقة المالية أن تدفع بشخص من قلب بيئة المقاومة للعمل لصالح عدوها.

من حزب الله إلى العدو
محمد هادي صالح شاب لبناني في الثلاثينات من عمره، عمل كمنشد ديني مقرّب من حزب الله، وينحدر من عائلة وثيقة الصلة بالتنظيم.
والده يعمل في “قوة الرضوان” التابعة للحزب، بينما استشهد شقيقه سابقاً في صفوف الحزب. هذه الخلفية العائلية منحته غطاءً قوياً وموثوقية كبيرة في أوساط الحزب، مما سهل له الحصول على معلومات حساسة واختراق دوائر ضيقة داخل التنظيم.
يوصف محمد هادي صالح بأنه شخصية كاريزمية ذكية، واسع الاطلاع ويمتلك قدرة كبيرة على الاندماج في بيئات اجتماعية متنوعة، وهي صفات ساعدته في جمع المعلومات الاستخبارية دون لفت الانتباه.
كان يتمتع بصوت عذب شجي استخدمه في الإنشاد الديني، وهو ما أتاح له التقرب من شخصيات بارزة في الحزب والمشاركة في مناسباتهم.
الضائقة المالية والانحدار نحو التجسس
بدأ محمد هادي صالح حياته المهنية في مجال تداول العملات الأجنبية “الفوركس”، لكنه تكبد خسائر مالية كبيرة أدت إلى تراكم ديونه التي بلغت نحو 18 ألف دولار. هذه الضائقة المالية دفعته للبحث عن مخرج سريع لأزمته المتفاقمة، وكانت بداية انزلاقه نحو التعامل مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
وفقاً للتحقيقات، تم فصله من الحزب قبل عملية “طوفان الأقصى” (أكتوبر 2023) بسبب تعامله في البورصة، وهو ما قد يكون عاملاً إضافياً دفعه للانتقام أو البحث عن مصادر دخل بديلة عبر بيع المعلومات.

آلية التجنيد والتواصل مع الموساد
في أكتوبر 2024، مع بداية التصعيد العسكري بين إسرائيل وحزب الله، بادر محمد هادي صالح من تلقاء نفسه للتواصل مع جهات إسرائيلية. وكانت أولى اتصالاته مع عملاء الموساد أثناء وجوده في العراق، حيث تفاعل مع منشور للموساد على وسائل التواصل الاجتماعي يحمل سؤالاً: “هل أنت عنصر سابق في حزب الله؟”.
سارع صالح للتواصل معهم بدافع الحاجة المالية، وادّعى امتلاكه معلومات قيمة عن قادة في حزب الله، طالباً المال مقابل الإفصاح عنها. ليبدأ بذلك مسيرة من التعاون الاستخباراتي أدت إلى كوارث حقيقية داخل صفوف الحزب.
طرق الاتصال والتمويل
استخدم صالح أساليب متطورة في التواصل مع مشغليه الإسرائيليين، حيث كان يتسلم الأموال عبر طريقة تُعرف بـ”البريد الميت” – وهي وسيلة شائعة لدى أجهزة الاستخبارات لتفادي الملاحقة. وقد كشفت التحقيقات أن له شريكاً آخر لا يزال هارباً في محافظة أربيل العراقية.
حصل محمد هادي صالح على ما مجموعه 23 ألف دولار من الجهات الإسرائيلية مقابل المعلومات التي قدمها. وقد تم تسليم هذه المبالغ على دفعات، في مقابل معلومات بالغة الأهمية ساهمت في تنفيذ عمليات استهداف دقيقة ضد قيادات الحزب.
قدم صالح أحداثيات دقيقة لمقرات حزب الله التي تعرضت لاحقاً للقصف، وتركزت محادثاته مع الموساد بشكل خاص على أنواع الدراجات النارية التي يستخدمها عناصر الحزب وآليات شرائها، مما يشير إلى أن إسرائيل كانت تخطط لعملية مشابهة لـ”عملية البيجر” تستهدف تفخيخ هذه الدراجات.
حصيلة العمليات والاغتيالات
ساهمت المعلومات التي قدمها محمد هادي صالح في تنفيذ سلسلة من عمليات الاغتيال التي استهدفت أكثر من 35 قيادياً في حزب الله بين الضاحية الجنوبية لبيروت وجنوب لبنان. وتشير بعض المصادر إلى أن عدد القادة والعناصر الذين تمت تصفيتهم بناءً على معلوماته تجاوز الأربعين.
من بين أبرز القيادات التي تم اغتيالها خلال هذه الفترة، والتي قد تكون مرتبطة بالمعلومات التي قدمها صالح:
حسن نصر الله (الأمين العام لحزب الله) في 27 سبتمبر 2024
فؤاد شكر (رئيس المنظومة الاستراتيجية)
إبراهيم عقيل (قائد قوة الرضوان)
إبراهيم محمد قبيسي (قائد منظومة الصواريخ)
حسن بدير وابنه علي (قتلا في أوائل أبريل 2025)
حسن عباس عز الدين (المسؤول عن منظومات حزب الله الجوية) في مارس 2025
هذا ما دفع صاحب المحل للاستعانة بشبان لاحتجازه حتى تسديد ديونه، وخلال احتجازه، أخذ أحدهم هاتفه للتدقيق برصيده في البورصة، فاكتشف بالصدفة مراسلات مع شخصية تدعى “لويس” يزودها بمعلومات عن حزب الله، ليتبين لاحقاً أنه يتعامل مع الموساد الإسرائيلي.
تم توقيف صالح في أواخر أبريل 2025، أولاً بتهم متعلقة بالاحتيال المالي، ثم اتسع التحقيق ليشمل تهم التجسس لصالح العدو.
الإجراءات القانونية والتحقيقات
ادّعى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي على محمد هادي صالح بتهمة التعامل مع العدو الإسرائيلي والموساد والتورط في قتل لبنانيين. وتم تحويل ملفه للتحقيق العسكري نظراً لخطورة التهم المنسوبة إليه.
يحظى الملف باهتمام خاص لدى القضاء اللبناني، وسط توجه إلى توسيع التحقيق بهدف الكشف عن مزيد من التفاصيل حول نوعية المعلومات التي سربها المشتبه به، وترجيحات بالتشدد في الحكم نظراً لحجم الأضرار.
تكتيكات الموساد ضد حزب الله
عملية البيجر وأساليب الاستخبارات الإسرائيلية
تزامنت قضية محمد هادي صالح مع عمليات استخباراتية معقدة نفذها الموساد ضد حزب الله، أبرزها “عملية البيجر” في سبتمبر 2024، التي انفجرت فيها آلاف أجهزة الاتصال بشكل متزامن، مما أدى إلى مقتل 9 أشخاص على الأقل وإصابة نحو 2800.
وكشف رئيس الموساد الإسرائيلي، دافيد برنياع، أن “عملية البيجر” كانت “مثالاً واضحاً على تحقيق المهمة”، مشيراً إلى أنه “تم التخطيط للعملية بطريقة إبداعية من قبل موظفي الموساد، باستخدام الحنكة والدهاء”.
يبدو أن المعلومات التي قدمها محمد هادي صالح كانت جزءاً من استراتيجية أوسع لاستهداف حزب الله، تضمنت جمع معلومات عن الدراجات النارية المستخدمة من قبل عناصره، وهو ما يشير إلى وجود مخطط إسرائيلي لتنفيذ عمليات مشابهة لعملية البيجر تستهدف وسائل تنقل عناصر الحزب.
الضربات المتتالية وتأثيرها على بنية حزب الله
أدت العمليات المتتالية التي استهدفت قيادات حزب الله إلى إلحاق ضرر بالغ ببنيته التنظيمية، وصولاً إلى اغتيال أمينه العام حسن نصر الله في 27 سبتمبر 2024، وهو ما شكل ضربة قاصمة للحزب بعد 32 عاماً قضاها نصر الله على رأس التنظيم.
وقد نشر إعلام حزب الله صورة تجمع 35 قيادياً من قيادات الحزب الميدانية التي تم اغتيالها أو قضت خلال المواجهات مع إسرائيل، بينهم الأمينان العامان السابقان للحزب حسن نصر الله وهاشم صفي الدين. وهو ما يعكس حجم الخسائر البشرية التي تكبدها الحزب، والتي يُعتقد أن محمد هادي صالح ساهم بشكل كبير في وقوعها.

الدوافع والتداعيات النفسية
من منشد ديني إلى عميل استخباري
يمثل تحول محمد هادي صالح من منشد ديني مقرّب من حزب الله إلى عميل للموساد حالة نفسية معقدة. فقد استغل صوته العذب وشخصيته الكاريزمية للتقرب من قيادات الحزب، حتى بات مصدراً موثوقاً للمعلومات التي باعها لاحقاً للعدو الإسرائيلي.
خلال التحقيقات، ادعى صالح أنه “عميل مزدوج” وليس عميلاً للكيان الإسرائيلي، وزعم أنه أخبر حزب الله بأنه تعامل مع العدو وأطلعهم على المعلومات التي قدمها لهم، وأن الحزب طلب منه أن يكون عميلاً مزدوجاً. إلا أن الأدلة القاطعة والشهادات أكدت تورطه في العمل لصالح الموساد.
رد فعل المجتمع والبيئة الحاضنة
أثار خبر توقيف محمد هادي صالح صدمة في أوساط معارفه، خصوصاً بعد أن نفت عائلته تلك الاتهامات ووصفتها بأنها مجرد خلاف مالي بحت. لكن تبين لاحقاً حجم الخيانة التي ارتكبها، وتم تعليق المشانق في الضاحية الجنوبية رمزياً للتعبير عن غضب البيئة الحاضنة للمقاومة من هذه الخيانة.
تكشف قصة محمد هادي صالح عن الاختراقات الأمنية التي يمكن أن تتعرض لها تنظيمات مثل حزب الله، حتى من داخل البيئة المقربة منها، وتثير مخاوف من وجود عملاء آخرين لم يتم كشفهم بعد.
الدروس المستفادة والتحديات المستقبلية
ثغرات أمنية وإجراءات مستقبلية
كشفت قضية محمد هادي صالح عن ثغرات أمنية خطيرة في بنية حزب الله، وأظهرت كيف يمكن أن تخترق الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية صفوف الحزب من خلال استغلال الضائقة المالية لبعض المقربين منه.
ويرجح أن يتبنى حزب الله إجراءات أمنية أكثر صرامة في التعامل مع المقربين منه، والتدقيق في أوضاعهم المالية والاجتماعية، لمنع تكرار مثل هذا الاختراق الذي أدى إلى خسائر فادحة في صفوفه.
مستقبل حزب الله بعد الضربات المتتالية
تواجه قيادة حزب الله الجديدة تحديات غير مسبوقة بعد سلسلة الاغتيالات التي استهدفت قياداته الأساسية، وصولاً إلى أمينه العام. فقد شكلت هذه الضربات نقطة تحول في مسيرة الحزب الذي تمتع بنفوذ متصاعد في المنطقة على مدار العقود الثلاثة الماضية.
تبقى الأسئلة مفتوحة حول قدرة الحزب على استعادة قوته السابقة، أو ما إذا كانت دورة الصعود والتراجع التي مرت بها المكونات اللبنانية الكبرى ستنسحب عليه أيضاً، خاصة بعد أن هشمت الضربات المتتالية صورته القوية التي طالما روج لها.
مقابل 23 ألف دولار فقط، تسبب منشد ديني بمقتل عشرات القيادات، وربما غيّر مسار التاريخ السياسي للمنطقة. وهي قصة تحمل في طياتها دروساً قاسية حول الأمن والولاء والخيانة، وتفتح الباب للتساؤل حول مستقبل حزب الله في ظل هذه التحديات الوجودية التي يواجهها، والتي قد تعيد تشكيل المشهد السياسي اللبناني والإقليمي لسنوات قادمة.










