في خطوة تاريخية هزت أركان الأسواق العالمية وأعادت رسم خريطة الثقة في الاقتصاد الأميركي، شهدت الأسواق المالية موجة اضطرابات حادة عقب إعلان وكالة موديز خفض التصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة من الدرجة “Aaa” إلى “Aa1” للمرة الأولى منذ أكثر من قرن، في ظل تصاعد المخاوف بشأن الدين العام الأميركي وارتفاع العجز المالي.
خلفية القرار: دين عام متضخم وعجز متفاقم
جاء قرار موديز بعد تحذيرات متكررة من تزايد الدين الأميركي الذي بلغ مستويات قياسية تقارب 36 تريليون دولار، أي أكثر من 120% من الناتج المحلي الإجمالي، وسط عجز سنوي يقترب من تريليوني دولار. وأشارت الوكالة إلى أن الإدارات الأميركية المتعاقبة والكونغرس فشلا في الاتفاق على تدابير فعّالة للحد من العجز المالي وتكاليف الفائدة المتزايدة، ما دفعها إلى مراجعة التصنيف نزولاً.
هذا التخفيض يأتي بعد خطوات مماثلة من وكالات التصنيف الأخرى مثل فيتش وستاندرد آند بورز خلال السنوات الماضية، ما يسلط الضوء على تراجع الاستثنائية المالية الأميركية التي طالما اعتُبرت ملاذاً آمناً للمستثمرين حول العالم.
ردود فعل الأسواق: قفزة في عوائد السندات وتراجع الأسهم والدولار
تفاعلت الأسواق بسرعة مع القرار، حيث ارتفعت عوائد سندات الخزانة الأميركية لأجل ثلاثين عاماً إلى أكثر من خمسة بالمئة، وهو أعلى مستوى منذ أبريل الماضي، كما صعدت عوائد السندات لأجل عشر سنوات إلى أربعة فاصل خمسة وأربعين بالمئة ولأجل عامين إلى أربعة بالمئة. ويعكس هذا الارتفاع تزايد تكلفة الاقتراض الحكومي، إذ يطالب المستثمرون بعلاوة سعرية أكبر لتعويض المخاطر المتزايدة المرتبطة بالدين الأميركي.
في المقابل، تراجعت العقود الآجلة للأسهم الأميركية بشكل حاد، حيث انخفض مؤشر داو جونز بأكثر من صفر فاصل ثمانية بالمئة وستاندرد آند بورز خمسمئة بنسبة واحد فاصل واحد بالمئة وناسداك مئة بنسبة واحد فاصل أربعة بالمئة. كما شهدت الأسواق الآسيوية والأوروبية هبوطاً ملموساً، في ظل حالة من الحذر والترقب لمآلات الاقتصاد الأميركي.
أما الدولار الأميركي، فقد تراجع أمام سلة العملات الرئيسية، ليخسر نحو صفر فاصل ستة بالمئة مقابل الين الياباني ويرتفع اليورو بنسبة صفر فاصل سبعة بالمئة أمامه، في دلالة على تراجع الثقة العالمية بالعملة الأميركية كملاذ آمن.
تداعيات سياسية واقتصادية: جدل داخلي وضغوط على الإدارة الأميركية
أثار قرار موديز موجة من الجدل في الأوساط السياسية الأميركية، حيث انتقد البيت الأبيض بشدة القرار واعتبره غير موضوعي، بينما رأى خبراء الاقتصاد أنه بمثابة جرس إنذار حقيقي لصناع القرار في واشنطن. وتأتي هذه التطورات في وقت يسعى فيه الرئيس دونالد ترامب والكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون إلى تمرير حزمة تخفيضات ضريبية جديدة، يُقدّر بعض الخبراء أنها قد تضيف ما بين ثلاثة إلى خمسة تريليونات دولار إلى الدين خلال العقد المقبل.
من جانب آخر، تبرز المخاوف من أن استمرار ارتفاع الفائدة وتكاليف خدمة الدين سيضغطان على النمو الاقتصادي ويهددان بتراجع مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية، في ظل توجه بعض المستثمرين لتنويع محافظهم بعيداً عن الأصول الأميركية.
هل تفقد أميركا مكانتها كملاذ آمن؟
رغم الضجة التي أحدثها القرار، يرى بعض المحللين أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بجاذبيتها الاستثمارية على المدى الطويل، لكنهم يحذرون من أن استمرار العجز وتنامي الدين قد يؤديان إلى فقدان جزء من بريقها كملاذ آمن، خاصة إذا لم تُتخذ إجراءات جادة لزيادة الإيرادات أو خفض الإنفاق.
من جانبه، أشار مايكل فيرولي، كبير الاقتصاديين في جي بي مورغان، إلى أن الأسواق لا تزال تتوقع خفضاً محدوداً في أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي هذا العام، لكن حالة عدم اليقين قد تدفع الفيدرالي إلى التريث في اتخاذ قرارات جديدة.
مستقبل الدولار والاقتصاد الأميركي: بين الفرص والمخاطر
يشير خبراء الاقتصاد إلى أن تراجع الدولار يحمل آثاراً مزدوجة؛ فمن جهة، يعزز القدرة التنافسية للصادرات الأميركية، ومن جهة أخرى، يرفع تكلفة المعيشة ويزيد معدلات التضخم، ما قد يدفع الاقتصاد نحو ركود تضخمي في حال استمرار الضغوط.
وفي ظل هذه التطورات، يبقى السؤال المطروح: هل يدفع جرس الإنذار الجديد الإدارة الأميركية إلى تعديل سياساتها المالية والنقدية، أم أن الأسواق ستشهد مزيداً من التقلبات في ظل استمرار حالة عدم اليقين؟
خلاصة:
قرار موديز بخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة شكّل زلزالاً في الأسواق المالية، وأعاد إلى الواجهة أزمة الدين الأميركي المزمنة، مع تداعيات واسعة على عوائد السندات، الأسهم، والدولار. وبينما تتعالى الأصوات المطالبة بإصلاحات جذرية، يبقى الاقتصاد الأميركي في مواجهة اختبار حقيقي لمكانته العالمية في السنوات المقبلة.











