في مشهد غير مسبوق منذ عقود، تشقّ أوروبا طريقًا جديدًا في تعاملها مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، كاسرةً جدار الصمت الغربي، ومعلنةً التمرّد على سياسة الدعم الأعمى لتل أبيب.
لم تعد العبارات الدبلوماسية المواربة كافية، ولم يعد الصمت الأوروبي يمرّ من دون ثمن. اليوم، تشهد إسرائيل بداية العزلة الحقيقية، لا من خصومها التقليديين، بل من قلب العواصم التي طالما شكلت لها ظهرًا سياسيًا وحصنًا اقتصاديًا.
ثلاث ضربات متزامنة – تصعيد دبلوماسي، تهديد اقتصادي، وقصف رمزي في الساحة الثقافية – كشفت أن أوروبا العجوز، المثقلة بتاريخ استعمار الشرق الأوسط، بدأت تصحح بوصلتها.

تحركاتٌ صاخبةٌ تُربك حسابات نتنياهو، وتُعيد رسم الخريطة السياسية للصراع، بينما يغيب الصوت العربي في لحظةٍ كان يُفترض أن يكون فيها أعلى ما يكون.
هذا ليس مجرد بيان إدانة عابر، بل بداية فصل جديد قد يُغيّر توازن القوى في المنطقة إلى الأبد.
وفي منعطفٍ يُعيد تشكيل الخريطة السياسية للشرق الأوسط، تشهد الساحة الدولية تحركًا أوروبيًا غير مسبوقٍ ضد إسرائيل، يمثِّل اختبارًا حاسمًا لتماسك الاتحاد الأوروبي وقدرته على فرض رؤيةٍ موحدةٍ تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
هذا التحرك، الذي تجسَّد في ثلاث ضربات استراتيجية – مراجعة الاتفاقية التجارية، والدفع نحو الاعتراف بفلسطين، والعقوبات الثقافية – يأتي ردًّا على تصاعد العنف في غزة واستمرار الحصار الإنساني، وسط تحوُّلات جيوسياسية تُعيد تعريف تحالفات المنطقة.
البيان الثلاثي: نقطة التحوُّل في السياسة الغربية
تصدَّرت فرنسا وبريطانيا وكندا المشهد الدبلوماسي بإصدار بيانٍ مشتركٍ يوم 19 مايو 2025، وصفته منظمة العفو الدولية بأنه “خطوة متأخرة لكنها ضرورية”.
البيان حمَّل إسرائيل مسؤولية “خرق القانون الإنساني الدولي” بسبب منع المساعدات، ودعا إلى “وقف فوري” للعمليات العسكرية في رفح، مع التهديد بفرض عقوباتٍ مستهدفةٍ إذا لم تستجب تل أبيب.
جاء هذا التصعيد ردًّا على العملية العسكرية الإسرائيلية “عربات جدعون”، التي شهدت توغُّلًا بريًا مكثفًا أدى إلى سقوط مئات الضحايا.
اللافت في البيان استخدامه لغةً قانونيةً صارمةً، حيث أشار إلى “مخاطر انتهاك إسرائيل للقانون الإنساني الدولي” بسبب منع المساعدات، وهي إشارةٌ غير مباشرةٍ إلى إمكانية ملاحقة قضائية دولية.
كما تجاهل البيان المزاعم الإسرائيلية حول “الدفاع عن النفس”، معتبرًا أن العمليات العسكرية “تجاوزت حدود المعقول”. ردًّا على ذلك، هاجم نتنياهو البيان ووصفه بأنه “مكافأة للإرهاب”، في محاولةٍ لتحويل الانتباه عن الأزمة الإنسانية في غزة.
الضربة الاقتصادية: مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية-الإسرائيلية
في تطورٍ بالغ الأهمية، أعلنت المفوضية الأوروبية يوم 20 مايو عن مراجعة شاملة لاتفاقية الشراكة مع إسرائيل بموجب المادة 2 المتعلقة باحترام حقوق الإنسان.
القرار، الذي حظي بدعم 17 دولةً عضوًا، يهدد بتعليق المزايا التجارية التي تصل قيمتها إلى 45 مليار يورو سنويًا.
هذه الخطوة تُعتبر الأكثر خطورةً على الاقتصاد الإسرائيلي منذ توقيع الاتفاقية عام 2000، خاصةً مع اعتماد تل أبيب على التكنولوجيا الأوروبية في قطاعاتٍ حيويةٍ مثل الطاقة المتجددة والاتصالات.
من الناحية القانونية، تستند المراجعة إلى رأيٍ استشاريٍّ لمحكمة العدل الدولية صدر في يوليو 2024، أكد أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية “غير قانوني” وأن على الدول الثالثة واجبَ إنهائه.
في هذا السياق، وصفت الباحثة ناتالي توتشي من معهد الشؤون الدولية في روما استمرار الاتفاقية بأنه “سخرية من قيم الاتحاد الأوروبي”.

الاعتراف بفلسطين: اختراق في الأمم المتحدة
تزامنَ التحرك التجاري مع ضغوطٍ أوروبيةٍ مكثفةٍ داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة لدعم الاعتراف الكامل بفلسطين. ففي 10 مايو 2024، صوَّتت 143 دولةً لصالح منح فلسطين حقوقًا إضافيةً كدولة مراقب.
رغم أن القرار لا يمنح فلسطين عضويةً كاملةً، إلا أنه يسمح لها بالمشاركة في مناقشات الجمعية العامة والانضمام إلى الوكالات الدولية.
هذا الإجراء مهَّد الطريق لإعلان إسبانيا وأيرلندا وسلوفينيا ومالطا عن نيتها الاعتراف بفلسطين بشكلٍ فرديٍ بحلول 21 مايو 2024، مع توقعات بأن تحذو فرنسا وبريطانيا حذوها خلال يونيو 2025.
من الناحية الاستراتيجية، يُضعف هذا التحرك الموقف الإسرائيلي الدولي، خاصةً بعد أن أشارت مصادر دبلوماسية إلى أن الاعتراف الأوروبي الجماعي قد يفتح الباب أمام مقاضاة إسرائيل في المحاكم الدولية.
في المقابل، حاول نتنياهو احتواء الموقف بالتهديد ب”إعادة النظر في العلاقات مع الدول المعترفة”، لكن التهديدات بدت ضعيفةً في ظلِّ العزلة المتزايدة.
العزلة الثقافية: استبعاد إسرائيل من يوروفيجن
بلغ التصعيد ذروته بدعوة رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز إلى استبعاد إسرائيل من مسابقة يوروفيجن للأغاني، مستشهدًا بسابقة روسيا بعد غزو أوكرانيا.
المطلب، الذي دعمته 24 دولةً أوروبيةً، يحمل دلالاتٍ رمزيةً عميقةً، إذ يُجسد تحوُّل النظرة الأوروبية لإسرائيل من “دولة ديمقراطية” إلى “دولة منبوذة”. رغم رفض الاتحاد الأوروبي للبث (EBU) الطلب بحجة “حيادية الفن”، إلا أن الضغط الشعبي المتصاعد قد يُجبر المنظمة على مراجعة موقفها في المستقبل.
ردود الفعل الإسرائيلية: بين التهديدات والتراجع
سارعت إسرائيل إلى إعلانٍ مفاجئٍ يوم 19 مايو يسمح بدخول 100 شاحنة مساعدات إلى غزة، لكن القرار لُقّب بـ”قطرة في محيط الاحتياجات” بعد تأكيد الأمم المتحدة حاجة القطاع إلى 500 شاحنة يوميًا.
من ناحيةٍ أخرى، كثَّف نتنياهو اتصالاته باللوبي اليهودي في أوروبا وأمريكا، محذرًا من “انهيار التحالفات التاريخية”. لكن التحليل الاستراتيجي يُشير إلى أن تأثير اللوبي تراجع بنسبة 40% مقارنةً بعام 2023، وفقًا لتقارير مركز كارنيغي.
العالم العربي: صمتٌ مُطبقٌ في لحظة الحقيقة
رغم التأييد الرسمي القطري والسعودي للتحركات الأوروبية، إلا أن الموقف العربي بقي مُترددًا. فلم تُعلن أي دولةٍ عربيةٍ عن إجراءاتٍ ملموسةٍ لدعم الاعتراف بفلسطين، مثل تعليق اتفاقيات التطبيع أو فرض عقوباتٍ اقتصاديةٍ.
هذا الصمت يُناقض الخطاب الرسمي حول “أولوية القضية الفلسطينية”، ويُثير تساؤلاتٍ حول جدوى التحالفات العربية في ظلِّ التنافس على الاستثمارات الغربية.
سيناريوهات المستقبل: بين التفاوض والتصعيد
السيناريو التفاوضي: ضغطٌ أوروبيٌ متصاعدٌ لإجبار إسرائيل على قبول خطة سلامٍ جديدةٍ تستند إلى حدود 1967، مع إشراف دوليٍ على القدس الشرقية.
السيناريو التصادمي: تصعيدٌ إسرائيليٌ عسكريٌ سريعٌ في غزة لخلق وقائع جديدةٍ، مع احتمالية مواجهةٍ مع ميليشياتٍ مدعومةٍ إيرانيًا.
السيناريو الانهياري: انقسامٌ داخل الاتحاد الأوروبي بين محورٍ فرنسي-إسبانيٍ داعمٍ للعقوبات، ومحورٍ ألماني-هولنديٍ مُعارض، مما يُضعف التأثير الجماعي.
الخاتمة: لحظة مفصلية في تاريخ الصراع
التحرُّك الأوروبي الأخير يُشكِّل علامةً فارقةً في التعامل الدولي مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إذ انتقلت الدول الغربية من خطاب “الدعم اللامشروط” إلى “المساءلة الفعلية”.
لكن نجاح هذه التحركات مرهونٌ بقدرة الأطراف الإقليمية على تحويل التأييد السياسي إلى إجراءاتٍ ملموسةٍ، وبقدرة الاتحاد الأوروبي على الحفاظ على وحدته في وجه الضغوط الأمريكية والإسرائيلية.
بينما تُعلن إسرائيل عن استعدادها لـ”حربٍ دبلوماسيةٍ طويلةِ الأمد”، يبدو أن الزخم الدولي قد فتح نافذةً نادرةً لإعادة تعريف الصراع، لكن إهدارها قد يُعمِّق الجروح ويعيد المنطقة إلى مربع العنف.
إليك خاتمة تحليلية محكمة تنهي التقرير بقوة وترسّخ دلالاته السياسية والاستراتيجية:
لحظة كسر الهيمنة أم عاصفة عابرة؟
ما تشهده الساحة الأوروبية اليوم ليس مجرد رد فعل عاطفي على مأساة إنسانية في غزة، بل تحوّل جذري في البنية الأخلاقية والسياسية التي حكمت علاقة الغرب بإسرائيل لعقود.
للمرة الأولى، يُترجم الغضب الشعبي الأوروبي إلى أدوات ملموسة: تعليق اتفاقيات، تهديد بالعقوبات، واعتراف سياسي بفلسطين.
هذا التحوّل – رغم تعثره داخل أروقة القرار الألماني – يحمل في طياته احتمالات تغيير قواعد الاشتباك التي طالما حمت إسرائيل من المحاسبة الدولية.
لكن هذا المسار يبقى محفوفًا بالعقبات. فجدار النفوذ الإسرائيلي في المؤسسات الغربية ما زال متينًا، والانقسام داخل الاتحاد الأوروبي قد يُقوّض هذا الزخم إن لم يُترجم إلى سياسة موحّدة ومستدامة.
وفي المقابل، تكشف ردود الفعل العربية الهزيلة عن فراغ استراتيجي خطير، إذ تتقدم أوروبا إلى قلب المعركة الرمزية بينما يكتفي العرب بمقاعد المتفرجين.
الأسابيع القادمة ستكون حاسمة: إما أن يُكمل الاتحاد الأوروبي خطواته حتى النهاية، ليصنع سابقة تاريخية تفتح الباب أمام تسوية حقيقية، أو يتراجع تحت ضغط الابتزاز السياسي والاقتصادي، فتُجهض هذه اللحظة كما أُجهضت قبلها فرصٌ كثيرة. ما هو مؤكد، أن ما بعد مايو 2025 ليس كما قبله.










