في عالم الجواسيس، حيث تُكتب القصص بالحبر السري وتُحفظ الأدلة في أدراج لا تُفتح إلا عند الضرورة، تكشف هذه الرواية غير المنشورة كيف اصطادت المخابرات المصرية أحد أخطر عملاء الموساد في قلب دمشق، بفضل عميلها الأسطوري في تل أبيب: رأفت الهجان. كيف قادت صورة عائلية عابرة إلى كشف هوية إيلي كوهين الحقيقية؟ وما الذي أخفته إسرائيل ستين عاماً حتى ظهرت وثائقه فجأة بعد سقوط نظام الأسد؟
هذا التحقيق يفتح خزانة الأسرار من جديد..في خطوة وُصفت بـ”الانتصار الاستخباراتي المتأخر”، كشفت إسرائيل عن 2500 وثيقة ومقتنيات شخصية للجاسوس إيلي كوهين استحوذ عليها الموساد بعد سقوط نظام الأسد، لكن خلف هذا الحدث الدرامي تكمن مفاجأة مدوية: المخابرات المصرية، وليس السوفييت، هي من كشفت الجاسوس الأشهر في التاريخ الإسرائيلي.
في هذا التقرير الحصري، نُعيد فتح واحدة من أعقد العمليات الاستخباراتية التي لعب فيها رأفت الهجان الدور الحاسم، ونكشف كيف تداخلت خيوط اللعبة بين القاهرة ودمشق وتل أبيب في حرب العقول التي لم تنتهِ بعد.
ولكن وقبل الغوص في تفاصيل هذا التقرير، لابد من الإشارة إلى حدث بالغ الأهمية كشفت عنه إسرائيل مؤخراً – وهو استحواذ الموساد على 2500 وثيقة وصورة وممتلكات شخصية للجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين من سوريا، في عملية استخباراتية تزامنت مع الذكرى الستين لإعدامه.
هذه العملية تثير تساؤلات عميقة حول العلاقة بين توقيت الكشف عن هذه الوثائق والتحولات السياسية الراهنة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، كما تلقي الضوء مجدداً على واحدة من أكثر قصص التجسس إثارة في تاريخ المنطقة.
خلفية العملية: من هو إيلي كوهين؟
ولد إيلي كوهين في الإسكندرية عام 1924 لعائلة يهودية من أصول سورية. ورغم أنه كان ابن مصر بالمولد والنشأة، إلا أن ولاءه كان موجهاً لإسرائيل، مما دفعه للانخراط في أنشطة تجسسية بوقت مبكر. في عام 1954، اعتقلته السلطات المصرية ضمن خلية تجسس يهودية متورطة فيما عُرف بـ”فضيحة لافون” أو “العملية سوزانا”. تلك العملية التخريبية استهدفت مصالح أمريكية وبريطانية في مصر، بهدف توتير علاقات القاهرة مع هاتين الدولتين.
رغم توقيف كوهين وقتها، لم تتوفر أدلة كافية لإدانته، ليغادر مصر بتأشيرة خروج بلا عودة إلى إيطاليا، ومنها إلى إسرائيل، حيث تم تجنيده وتدريبه بشكل مكثف من قبل الموساد. بعد فترة، أرسل إلى الأرجنتين تحت هوية مزورة باسم “كامل أمين ثابت”، ليندمج في الجالية العربية هناك، قبل أن يتم إرساله إلى سوريا عام 1961.
نجح كوهين في التغلغل داخل النخبة السياسية والعسكرية السورية، وأصبح من الشخصيات المقربة من الدوائر الحاكمة، حتى أنه وصل إلى منصب مستشار لوزير الدفاع ونائب رئيس سوريا وقتها، وأصبح مرشحاً لمنصب رفيع في الحكومة السورية. خلال هذه الفترة، قدم معلومات استخباراتية قيمة لإسرائيل، خاصة حول تحصينات سورية في مرتفعات الجولان، والتي ساهمت لاحقاً في تفوق إسرائيل في حرب 1967.
الاكتشاف الخفي: دور رأفت الهجان
تروي الوثائق الاستخباراتية التي حصلت عليها قصة مختلفة تماماً عن تلك التي يتداولها الموساد الإسرائيلي حول اكتشاف كوهين. بينما تزعم إسرائيل أن كوهين سقط بسبب تقنيات التنصت السوفيتية المتطورة التي التقطت إشاراته اللاسلكية، تكشف تحقيقاتنا عن دور محوري لعبته المخابرات المصرية في كشف الجاسوس الإسرائيلي.
كان رفعت علي سليمان الجمال، المعروف باسمه الحركي “رأفت الهجان” أو “جاك بيتون” في إسرائيل، عنصراً استخباراتياً مصرياً من الطراز الرفيع تم زرعه داخل إسرائيل في يونيو 1956، وقد نجح في بناء شبكة علاقات واسعة وتأسيس شركة سياحية ناجحة في تل أبيب كغطاء لأنشطته التجسسية.
ما كشفناه في حلقة من برنامج “سري للغاية” عام 1998، ولم يُنشر من قبل، هو أن رأفت الهجان كان بالفعل الشرارة الأولى التي أدت إلى كشف إيلي كوهين. خلال إحدى اللقاءات الاجتماعية في إسرائيل، قدمت له سيدة إسرائيلية صوراً عائلية تضمنت صورة رجل مع زوجته وسبعة أطفال. عند استفساره، أخبرته السيدة بفخر أن هذا زوج أختها “إيلي كوهين” الذي يعمل رجل أعمال ناجح في الأرجنتين.
هنا تكمن المفارقة الاستخباراتية المذهلة – فقد كان الهجان على دراية مسبقة بملف كوهين وهويته المزيفة “كامل أمين ثابت” من تقارير سابقة للمخابرات المصرية. فور رؤيته للصورة، أدرك أن “إيلي كوهين” هو نفسه “كامل أمين ثابت” الذي بدأ يظهر في الأوساط السورية الراقية، فأرسل برقية عاجلة إلى القاهرة بهذه المعلومة الحاسمة.
خطة الاصطياد: من القاهرة إلى دمشق
سارعت المخابرات المصرية بتشكيل فريق رفيع المستوى نقل المعلومات إلى نظيره السوري مع الأدلة التي تؤكد هوية كوهين الحقيقية. وضعت خطة محكمة تعتمد على رصد تحركاته ومراقبة اتصالاته، خاصة خلال الفترات التي كان يرسل فيها المعلومات إلى إسرائيل.
شكك البعض في القيادة السورية آنذاك في صحة المعلومات، نظراً للمكانة المرموقة التي وصل إليها “كامل أمين ثابت” في المجتمع السوري، لكن التعاون الاستخباراتي المصري-السوري كشف عن نمط مريب في تحركاته ومواعيد إرساله للرسائل اللاسلكية.
في يناير 1965، وبدعم من خبراء الاتصالات السوفييت المتواجدين في سوريا آنذاك، تمكن فريق مشترك من تحديد موقع الإرسال وضبط كوهين متلبساً أثناء إرساله لرسالة مشفرة، كما عثر في شقته على أجهزة إرسال واستقبال وشفرات سرية ووثائق تؤكد هويته الحقيقية.
المواجهة والإدانة: آخر أيام الجاسوس
خضع كوهين لتحقيقات مكثفة امتدت لأسابيع، وعُرض على محاكمة عسكرية سريعة أدانته بالتجسس والتخابر مع العدو، ليصدر عليه حكم بالإعدام شنقاً. نُفذ الحكم في 18 مايو 1965 في ساحة المرجة بدمشق، وبُث إعدامه على الهواء مباشرة في التلفزيون السوري.
ما يكشف عنه الآن من الوثائق التي استحوذ عليها الموساد، أن كوهين كتب وصيته الأخيرة قبل ساعات من إعدامه، وأن السلطات السورية سمحت لرئيس الجالية اليهودية في دمشق، الحاخام نسيم عندابو، بمرافقته قبيل الإعدام وفق التقاليد اليهودية.
تحليل استخباراتي: الإخفاق والنجاح
عملية إيلي كوهين تمثل نجاحاً استخباراتياً إسرائيلياً في الاختراق، لكنها أيضاً تعكس إخفاقاً في الحفاظ على سلامة العميل. من منظور استخباراتي، يمكن تحديد عدة أخطاء قاتلة ارتكبها كوهين، أهمها:
١- تجاوز بروتوكولات الاتصال الآمن وزيادة عدد مرات الإرسال.
٢-تبنيه حياة اجتماعية مرموقة وظهوره المتكرر في الأوساط العليا، مما زاد من احتمالية كشفه.
٣-تداخل ملفات هويته المزيفة بين إيلي كوهين في إسرائيل وكامل أمين ثابت في سوريا.
في المقابل، نجحت المخابرات المصرية في استثمار موقع عميلها المزدوج رأفت الهجان داخل إسرائيل للحصول على معلومات حيوية مكّنت من كشف أحد أهم الجواسيس الإسرائيليين في تاريخ المنطقة.
الأبعاد الراهنة: استعادة الوثائق بعد ستين عاماً
يثير استحواذ الموساد على وثائق ومقتنيات إيلي كوهين في مايو 2025 أسئلة جوهرية حول توقيت العملية وظروفها، خاصة بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، وتشكيل حكومة جديدة في سوريا.
الوثائق التي كشف عنها الموساد، والتي تضم نحو 2500 قطعة بين وثيقة وصورة ومقتنيات شخصية، تشمل التحقيقات الأصلية ووصية كوهين ومفاتيح شقته في دمشق وجوازات سفره المزورة. وفق المصادر الإسرائيلية، فإن جلب هذه الوثائق يأتي بعد “عقود من الجهود” و”عشرات العمليات” التي قام بها الموساد بالتعاون مع “شركاء استخباراتيين حول العالم”.
خاتمة: حرب الأظلال المستمرة
تظل قصة إيلي كوهين واحدة من أكثر قصص التجسس إثارة في العالم العربي، ليس فقط بسبب نجاحه في الاختراق، بل أيضاً بسبب كيفية سقوطه على يد عميل مزدوج مصري في مفارقة دراماتيكية نادرة.
ومع استعادة إسرائيل لوثائق كوهين بعد ستين عاماً، تبرز أسئلة جديدة حول حقيقة ما حدث في تلك الفترة، وماهية المعلومات التي قد تحتويها هذه الوثائق، وتأثيرها على فهمنا للتاريخ والعلاقات الاستخباراتية في المنطقة.
في خضم هذه اللعبة من الأضواء والأظلال، تبقى الحقيقة كاملة حبيسة ملفات قليلة في أدراج أجهزة مخابرات عدة، تخرج منها فقط ما يخدم مصالحها وسردياتها في التوقيت المناسب. ولعل ما كشف عنه الموساد الآن ليس إلا جزءاً يسيراً من حقيقة معقدة ومتشابكة، ستظل أجزاء منها طي الكتمان لعقود قادمة.
