في مسرح السياسة الدولية، لا تبقى العلاقات على حالها مهما طال أمدها، بل تتغير بتغير المصالح وتبدل المواقف وتحت ضغط الأحداث الكبرى. هكذا هي العلاقة بين بريطانيا وكيان التختلال “إسرائيل”؛ علاقة بدأت بوعد بلفور الذي خطه التاريخ قبل أكثر من قرن، وظلت على مدى عقود رمزًا لتحالف استثنائي جمع بين السياسة والاقتصاد والمصالح المشتركة. لكن الرياح التي تهب اليوم من الشرق الأوسط، محملة بصور الصراع الإنساني والتوترات المتصاعدة في غزة والضفة الغربية، دفعت لندن إلى مراجعة حساباتها والبحث في دفاتر التاريخ عن موقع جديد لها في هذا المشهد المتغير.
في ضوء التصعيد الأخير في غزة والضفة الغربية، اتخذت حكومة كير ستارمر ببريطانيا قرارًا غير مسبوق بتعليق محادثات التجارة الحرة مع إسرائيل، وفرض عقوبات على شركات وأفراد متورطين في العنف ضد الفلسطينيين
وقد شهدت العلاقات الاقتصادية بين بريطانيا وإسرائيل نموًا متسارعًا خلال العقود الأخيرة، حتى أصبحت بريطانيا اليوم من أكبر الشركاء التجاريين لإسرائيل على مستوى العالم. لم يكن هذا الدعم الاقتصادي وليد اللحظة، بل هو امتداد لمسار طويل من التعاون بدأ منذ بدايات القرن العشرين، وتحديدًا منذ صدور وعد بلفور عام 1917، الذي أسس لعلاقة وثيقة بين بريطانيا والحركة الصهيونية، ثم الدولة الإسرائيلية لاحقًا.
تطور العلاقات الاقتصادية بين بريطانيا وإسرائيل
منذ إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، لعبت بريطانيا دورًا محوريًا في دعم الاقتصاد الإسرائيلي، سواء من خلال تسهيل الاستثمارات أو عبر توقيع اتفاقيات تجارية تفضيلية. في عام 1995، وقعت بريطانيا وإسرائيل اتفاقية تجارة حرة، سمحت بتدفق السلع والخدمات بين البلدين دون قيود جمركية كبيرة. ومع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سعت لندن إلى تحديث هذه الاتفاقية لتواكب التحولات الاقتصادية العالمية، ووضعت خارطة طريق جديدة للتعاون الاقتصادي حتى عام 2030، تركز بشكل خاص على مجالات الابتكار والتكنولوجيا.
تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن حجم التبادل التجاري بين بريطانيا وإسرائيل بلغ أكثر من سبعة مليارات دولار سنويًا في السنوات الأخيرة، حيث وصلت صادرات المملكة المتحدة إلى إسرائيل إلى نحو ثلاثة مليارات وثمانمائة مليون جنيه إسترليني، في حين بلغت الواردات من إسرائيل ثلاثة مليارات وستمائة مليون جنيه إسترليني. وتعد بريطانيا أكبر شريك تجاري أوروبي لإسرائيل، وثالث أكبر شريك عالميًا بعد الولايات المتحدة والصين.
الاستثمارات والشركات بين البلدين
تعمل في بريطانيا أكثر من أربعمائة شركة تكنولوجيا إسرائيلية، تساهم في خلق نحو ستة عشر ألف فرصة عمل في السوق البريطانية. وتقدر الاستثمارات الإسرائيلية المباشرة في المملكة المتحدة بنحو مليار جنيه إسترليني سنويًا، مع توقعات بزيادة هذا الرقم في ظل التوجه نحو تعزيز التعاون في مجالات الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، والتقنيات الطبية.
في المقابل، تستفيد إسرائيل من السوق البريطانية كمركز مالي واستثماري دولي، كما تستفيد من التعاون البحثي والتكنولوجي مع الجامعات والمؤسسات البريطانية. وقد أبرم البلدان اتفاقيات تمويل مشترك للأبحاث والابتكار بقيمة عشرين مليون جنيه إسترليني حتى عام 2030.
خلفيات تاريخية: من وعد بلفور إلى الشراكة الاقتصادية
لا يمكن فصل الدعم الاقتصادي البريطاني لإسرائيل عن الخلفية التاريخية للعلاقات بين البلدين. فقد كان وعد بلفور عام 1917 نقطة تحول مفصلية، حيث تعهدت بريطانيا بدعم إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. ومع خضوع فلسطين للانتداب البريطاني، وفرت لندن بيئة مواتية لهجرة اليهود وتأسيس مؤسسات اقتصادية وتعليمية قوية شكلت لاحقًا العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي.
خلال العقود اللاحقة، ورغم بعض الفترات من التوتر السياسي، واصلت بريطانيا دعمها لإسرائيل اقتصاديًا ودبلوماسيًا. وشهدت العلاقات التجارية طفرة كبيرة منذ تسعينيات القرن الماضي، مع توقيع اتفاقيات الشراكة والتجارة الحرة، وتوسيع الاستثمارات المتبادلة، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والابتكار.
التحولات الأخيرة: تعليق محادثات التجارة الحرة
في ضوء التصعيد الأخير في غزة والضفة الغربية، اتخذت حكومة كير ستارمر قرارًا غير مسبوق بتعليق محادثات التجارة الحرة مع إسرائيل، وفرض عقوبات على شركات وأفراد متورطين في العنف ضد الفلسطينيين. هذا القرار، رغم أنه لا ينهي العلاقات الاقتصادية، إلا أنه يبعث برسالة سياسية قوية ويهدد مستقبل التعاون التجاري المزدهر بين البلدين.
من المتوقع أن يؤثر هذا التعليق على حجم التبادل التجاري السنوي، ويضع قيودًا على الاستثمارات الجديدة، خاصة في القطاعات التكنولوجية التي تعتمد على التعاون الدولي. كما أنه قد يدفع الشركات الإسرائيلية لإعادة النظر في خططها التوسعية داخل السوق البريطانية، ويؤثر على فرص العمل المرتبطة بهذه الاستثمارات.
مستقبل العلاقات الاقتصادية بين بريطانيا وإسرائيل
رغم التوترات السياسية الحالية، من غير المتوقع أن تنقطع العلاقات الاقتصادية بين بريطانيا وإسرائيل بشكل كامل، نظرًا لتشابك المصالح وتعدد مجالات التعاون. غير أن استمرار الضغوط الدولية على إسرائيل بسبب سياساتها في الأراضي الفلسطينية، وتغير المزاج السياسي البريطاني، قد يدفع لندن إلى إعادة تقييم أولوياتها الاقتصادية، خاصة فيما يتعلق بالاستثمارات في القطاعات الحساسة مثل الدفاع والتكنولوجيا المتقدمة.










