شهد الاقتصاد الألماني تطورًا صادمًا في الأيام الأخيرة، حيث أعلن مجلس “الحكماء الخمسة” وهو الهيئة الاستشارية الاقتصادية الأهم في ألمانيا، عن خفض توقعاته لنمو الاقتصاد الألماني لعام 2025 إلى الصفر. جاء هذا القرار بعد عامين متتاليين من الانكماش، إذ سجل الناتج المحلي الإجمالي تراجعًا بنسبة 0.2 في المئة في عام 2024 و0.3 في المئة في عام 2023، ليكون ذلك أسوأ أداء اقتصادي لألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
بدأت الأزمة تتفاقم مع استمرار الانكماش في القطاع الصناعي، الذي كان لعقود قاطرة النمو الألماني. فقد تراجعت الإنتاجية في القطاعات الصناعية كثيفة الطاقة بنسبة تتراوح بين عشرة إلى خمسة عشر في المئة، ويعود ذلك إلى ارتفاع تكاليف الغاز والكهرباء بعد أزمة الطاقة الأوروبية. كما فرضت الولايات المتحدة الأمريكية رسوماً جمركية جديدة على واردات السيارات الأوروبية، ما وجه ضربة قوية لصادرات السيارات الألمانية، خاصة وأن الولايات المتحدة تمثل أكبر سوق خارجي للسيارات الألمانية بحصة بلغت ثلاثة عشر في المئة من الصادرات في عام 2024.
إضافة إلى ذلك، تراجع الاستهلاك المحلي والاستثمار بشكل ملحوظ، حيث ضعفت ثقة المستهلكين وترددت الشركات في ضخ استثمارات جديدة نتيجة حالة عدم اليقين السياسي والاقتصادي، خاصة مع اقتراب الانتخابات الفيدرالية المبكرة في فبراير 2025. كما تواجه ألمانيا تحديات هيكلية في سوق العمل بسبب شيخوخة السكان وبطء التحول الرقمي، ما أثر سلبًا على تنافسية الاقتصاد الألماني.
تشير تقديرات مجلس “الحكماء الخمسة” إلى أن عدد العاطلين عن العمل يقترب من ثلاثة ملايين شخص لأول مرة منذ عشر سنوات، مع استمرار تراجع الطلب على العمالة الصناعية. ويواجه القطاع الصناعي الذي يعتمد على التصدير صدمات إضافية إذا ما تصاعدت الحرب التجارية مع الولايات المتحدة أو استمرت أسعار الطاقة في مستوياتها المرتفعة.
في محاولة لاحتواء الأزمة، أقرت الحكومة الألمانية حزمة إنفاق ضخمة بقيمة خمسمائة مليار يورو لتمويل مشاريع البنية التحتية والدفاع والتحول المناخي. ورغم أن هذه الحزمة تهدف إلى تحفيز الاستثمار ودعم النمو، إلا أن هناك مخاوف متزايدة من أن تؤدي إلى ارتفاع الديون العامة بنسبة قد تصل إلى ثلاثة وثلاثين في المئة خلال السنوات العشر المقبلة، ما قد يهدد الاستقرار المالي على المدى الطويل.
ويرى خبراء الاقتصاد أن أزمة ألمانيا الحالية تتجاوز كونها مجرد ركود دوري، بل تحمل ملامح أزمة هيكلية أعمق. فإلى جانب الصدمات الخارجية مثل الرسوم الجمركية وأزمة الطاقة، هناك تحديات داخلية مثل البيروقراطية المفرطة وارتفاع الضرائب وتراجع جاذبية ألمانيا كموقع استثماري عالمي. ويشير محللون إلى أن قدرة الحكومة على إجراء إصلاحات هيكلية جذرية ستكون العامل الحاسم في تحديد ما إذا كان الاقتصاد الألماني سيستعيد عافيته أم يدخل في نفق ركود طويل.
تتوقع الحكومة الألمانية ومجلس “الحكماء الخمسة” أن يبدأ الاقتصاد في التعافي تدريجيًا عام 2026 مع نمو متوقع بنسبة واحد في المئة، مدعومًا بتأثير الحوافز المالية وزيادة الدخل المتاح للإنفاق. لكن هذا السيناريو يبقى رهينًا باستقرار الأسواق العالمية ونجاح ألمانيا في تجاوز أزماتها الهيكلية وإيجاد حل للنزاعات التجارية مع الولايات المتحدة.
خلاصة القول، إن الاقتصاد الألماني يواجه أخطر اختبار منذ عقود، مع توقعات نمو صفري في عام 2025 وركود يهدد مكانته كقاطرة أوروبا الصناعية. الأزمة مركبة، تجمع بين أسباب هيكلية مثل الطاقة والديموغرافيا والبيروقراطية، وتحديات خارجية مثل الرسوم الجمركية الأمريكية واضطراب سلاسل التوريد. الحل يكمن في إصلاحات جذرية وسياسات تحفيزية متوازنة، وإلا فإن الركود قد يطول ويعيد رسم خريطة القوة الاقتصادية في أوروبا والعالم.






