في خطوة تكشف عمق أزمات قطاع الطاقة المصري وتخبط سياسات النظام، علّقت الحكومة المصرية فجأة خطة خفض إمدادات الغاز الطبيعي لمصانع الأسمدة والبتروكيماويات، بعد أن كانت الشركة المصرية للغازات الطبيعية “جاسكو” قد أخطرت المصانع رسمياً بتقليص الإمدادات لمدة أسبوعين، قبل أن تتراجع وتعلن تعليق القرار لأجل غير مسمى. هذه القرارات المرتبكة لم تأتِ من فراغ، بل تعكس أزمة هيكلية تتفاقم يوماً بعد يوم، وتُلقي بظلالها الثقيلة على الاقتصاد المصري، خاصة مع اقتراب موسم الصيف وارتفاع الطلب على الطاقة.
خلفيات الأزمة: فشل الإدارة وتبعات الاعتماد على الخارج
تعود جذور الأزمة إلى تراجع الإنتاج المحلي من الغاز الطبيعي في مصر بشكل حاد، حيث انخفض من أربعة مليارات وستمئة مليون متر مكعب في يناير ألفين وأربعة وعشرين إلى ثلاثة مليارات وثلاثمئة مليون فقط في فبراير ألفين وخمسة وعشرين، وهو أدنى مستوى منذ عام ألفين وستة عشر. هذا التراجع أجبر الحكومة على تعويض النقص عبر استيراد الغاز من إسرائيل، في صفقة مثيرة للجدل بلغت قيمتها خمسة عشر مليار دولار، رغم أن مصر كانت قد أعلنت تحقيق الاكتفاء الذاتي بعد اكتشاف حقل ظهر العملاق.
لكن سوء إدارة ملف الطاقة وغياب التخطيط الاستراتيجي دفع البلاد إلى أزمة متكررة: تصدير الغاز للخارج بحثاً عن العملة الصعبة، ثم استيراده بأسعار أعلى لسد العجز المحلي، ليبقى المواطن والصناعة رهائن لقرارات ارتجالية لا تعكس أي رؤية طويلة الأمد.
مصانع الأسمدة في مرمى النيران: إنتاج يتراجع وصادرات تتبخر
مصانع الأسمدة والبتروكيماويات – التي تستهلك ما بين خمسة وثلاثين إلى أربعين في المئة من إجمالي استهلاك القطاع الصناعي من الغاز – كانت أولى ضحايا هذه السياسات العشوائية. فور إعلان قرار خفض الإمدادات، توقعت الشركات انخفاض إنتاجها بنسبة تصل إلى ثلاثين في المئة خلال فترة التخفيض، مع ما يعنيه ذلك من تراجع في الصادرات وارتفاع في الأسعار المحلية.
حتى بعد تعليق القرار، بقيت المصانع تعمل بطاقة تشغيلية لا تتجاوز خمسة وثمانين في المئة، وسط مخاوف من تكرار الانقطاعات في أي لحظة، خاصة وأن الأزمة ليست جديدة: العام الماضي شهد توقفاً كاملاً لبعض المصانع لأيام بسبب انقطاع الغاز، بينما تراجعت أرباح أكبر ست شركات في القطاع بأكثر من سبعة وخمسين في المئة خلال الربع الأول من عام ألفين وخمسة وعشرين، رغم ارتفاع المبيعات.
تداعيات اقتصادية واجتماعية: من يدفع الفاتورة؟
لا تقتصر تداعيات الأزمة على أصحاب المصانع أو المستثمرين في البورصة. فالقطاع الزراعي بأكمله بات مهدداً، إذ يؤدي نقص الأسمدة وارتفاع أسعارها إلى زيادة تكلفة الإنتاج الزراعي، ما ينعكس مباشرة على أسعار الغذاء وحياة ملايين الفلاحين والمستهلكين. كما أن تراجع الصادرات يضغط على احتياطي النقد الأجنبي، ويزيد من هشاشة الاقتصاد في مواجهة الأزمات العالمية.
أسباب حقيقية أم تبريرات حكومية؟
الحكومة المصرية تبرر الأزمة بأعمال صيانة في خطوط تصدير الغاز الإسرائيلي وزيادة الاستهلاك المحلي خلال الصيف، إلا أن الحقائق تشير إلى فشل هيكلي في إدارة ملف الطاقة، وتغليب المصالح الضيقة على احتياجات السوق المحلي. فبدلاً من الاستثمار في تطوير الإنتاج المحلي وتنويع مصادر الاستيراد، فضّل النظام الاعتماد شبه الكامل على الغاز الإسرائيلي، رغم هشاشة العلاقات الإقليمية وتقلباتها.
مستقبل غامض… هل تتعلم الحكومة من أخطائها؟
تُظهر أزمة الغاز الحالية أن مصر بحاجة ماسة إلى مراجعة جذرية لسياساتها الطاقوية، بعيداً عن الحلول المؤقتة والترقيع المستمر. فاستمرار الاعتماد على الخارج، في ظل تراجع الإنتاج المحلي وسوء الإدارة، يعني أن الأزمات ستتكرر، وأن الصناعة والزراعة والمواطن سيدفعون الثمن في كل مرة.
أزمة الغاز في مصر نموذج صارخ لفشل السياسات الحكومية في إدارة الموارد الطبيعية وتحقيق التنمية المستدامة، بينما يبقى المواطن المصري هو الضحية الأولى.
خلاصة ناقدة
إن تعليق قرار خفض إمدادات الغاز لمصانع الأسمدة ليس حلاً، بل هو تأجيل لأزمة أعمق تكشف عجز النظام عن مواجهة التحديات الحقيقية. فإلى متى ستظل الحكومة تكتفي بردود الفعل المؤقتة، وتترك الاقتصاد الوطني رهينة للظروف الخارجية وسوء الإدارة؟











