في خطوة جريئة تعكس تحولات جيوسياسية واقتصادية عميقة، أعلنت حكومة طالبان في أفغانستان عن بدء محادثات مع روسيا والصين لاعتماد العملات الوطنية في التبادل التجاري بدلاً من الدولار الأمريكي. هذه الخطوة، التي كشف عنها القائم بأعمال وزير الصناعة والتجارة نورالدين عزیزی، تهدف إلى تعزيز السيادة الاقتصادية وتقليل الاعتماد على العملة الخضراء في ظل بيئة دولية متقلبة وتراجع حاد في المساعدات الخارجية.
خلفية: اقتصاد أفغاني تحت الضغط بعد الانسحاب الأمريكي
منذ انسحاب القوات الأمريكية في أغسطس 2021 وسيطرة طالبان على البلاد، واجه الاقتصاد الأفغاني صدمات عنيفة. فقد توقفت المساعدات الدولية التي كانت تمثل أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي، وجمدت واشنطن نحو 9.5 مليار دولار من احتياطيات البنك المركزي الأفغاني، ما أدى إلى انهيار مفاجئ في النظام المالي وارتفاع معدلات البطالة والفقر. انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20% تقريباً منذ عودة طالبان إلى السلطة، رغم محاولات الحكومة الجديدة تعزيز الإيرادات عبر فرض ضرائب ورسوم إضافية وزيادة تحصيل عائدات الموارد الطبيعية.
محاولة للخروج من عباءة الدولار
تسعى حكومة طالبان إلى كسر العزلة الاقتصادية عبر تنشيط التجارة مع روسيا والصين، وهما دولتان تخضعان أيضاً لعقوبات غربية. ويبلغ حجم التبادل التجاري السنوي بين أفغانستان وروسيا نحو 300 مليون دولار، بينما يصل مع الصين إلى نحو مليار دولار سنوياً، مع توقعات بزيادة هذا الرقم مع توسع الاستثمارات، خاصة في مجالي النفط والبلاستيك. وتأتي هذه الخطوة ضمن توجه روسي وصيني أوسع لتقليل الاعتماد على الدولار في ظل العقوبات الغربية وتوتر العلاقات مع واشنطن.
نحن منخرطون في مناقشات متخصصة تأخذ في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية الإقليمية والدولية، والعقوبات، والتحديات التي تواجهها أفغانستان وروسيا على حد سواء. المشاورات الفنية جارية.
— نور الدين عزیزی، وزير التجارة الأفغاني
تحليل: هل يشهد الاقتصاد الأفغاني انتعاشاً فعلياً؟
رغم الأزمات، سجل الاقتصاد الأفغاني نمواً بنسبة 2.5% خلال عامي 2024 و2025، وفقاً للبنك الدولي، إلا أن هذا النمو يظل أقل من معدل نمو السكان، ويُتوقع أن يتراجع إلى 2.2% خلال العامين الماليين 2025 و2026. ويعود هذا التحسن النسبي إلى إجراءات حكومية مثل فرض قيود على الواردات المهرَّبة، وتنظيم المعاملات المصرفية، وزيادة الإيرادات من قطاع التعدين الذي شهد توسعاً ملحوظاً عبر توقيع أكثر من 200 اتفاقية تعدين مع شركات أجنبية، خاصة من الصين وتركيا وقطر.
مع ذلك، تبقى التحديات الهيكلية عميقة. فمعدل البطالة بلغ 14.39% عام 2023، وتراجعت القوة الشرائية للمواطنين بفعل ارتفاع الأسعار وتآكل قيمة العملة المحلية، رغم استقرارها النسبي مؤخراً. كما أن معظم الإيرادات الحكومية تُخصص لرواتب موظفي القطاع العام وقوات الأمن، مع استفادة محدودة للمواطنين العاديين من هذا التحسن.
البعد الجيوسياسي: الصين وروسيا في قلب المعادلة
تسعى الصين، عبر مبادرة الحزام والطريق، إلى تعزيز حضورها الاقتصادي في أفغانستان، مستفيدة من موقعها الاستراتيجي ومواردها الطبيعية الغنية. كما تهدف بكين إلى ضمان استقرار أفغانستان حمايةً لمصالحها في آسيا الوسطى وأمن حدودها مع منطقة شينجيانغ. في المقابل، ترى موسكو في التعاون مع كابول فرصة لكسر العزلة الغربية وتعزيز نفوذها في المنطقة، خاصة في ظل العقوبات المتبادلة مع الغرب.
مخاطر وتحديات مستقبلية
رغم هذه التحركات، يواجه الاقتصاد الأفغاني مخاطر كبيرة:
- استمرار العقوبات الدولية وصعوبة الاعتراف الرسمي بحكومة طالبان.
- ضعف النظام المصرفي وصعوبة تحويل الأموال من وإلى البلاد.
- الاعتماد الكبير على قطاع التعدين، الذي قد لا يكون كافياً لتعويض فقدان المساعدات الدولية أو تحقيق تنمية شاملة.
- احتمالات تراجع العملة المحلية في حال استمرار الضغط على الدولار وتراجع الاستثمارات الأجنبية.
خلاصة: بين الطموح والواقع
تُعد خطوة كابول للخروج من هيمنة الدولار محاولة جريئة لتعزيز السيادة الاقتصادية في ظل عزلة دولية خانقة. لكن نجاح هذه الاستراتيجية مرهون بقدرة حكومة طالبان على استقطاب الاستثمارات الأجنبية، خاصة من الصين وروسيا، وتحقيق استقرار سياسي وأمني مستدام. حتى الآن، يبقى الاقتصاد الأفغاني في مرحلة انتقالية محفوفة بالتحديات، مع فرص محدودة للانتعاش الفعلي ما لم تتغير البيئة الدولية ويُرفع جزء من العقوبات المفروضة على البلاد.











