شهدت مصر في عام 2024 انخفاضًا غير مسبوق في معدلات الإنجاب، حيث سجل معدل الإنجاب الكلي 2.41 طفل لكل سيدة، مقارنة بـ2.54 طفل في عام 2023، بنسبة تراجع بلغت أكثر من خمسة في المئة، وهو أدنى مستوى منذ بدء تسجيل البيانات قبل سبعة عشر عامًا. ورغم اعتبار هذا التراجع نجاحًا للاستراتيجية الوطنية للسكان والتنمية، إلا أن التجارب الدولية تشير إلى أن استمرار انخفاض معدلات الإنجاب يحمل في طياته تحديات اقتصادية واجتماعية جسيمة على المدى البعيد، كما حدث في ما يُعرف بـ”الدول العجوز” في أوروبا وآسيا.
أسباب التراجع في مصر
يرجع هذا الانخفاض إلى مجموعة من العوامل المتداخلة. من أبرز هذه العوامل التحول الثقافي المستمر نحو الأسر الصغيرة، حيث أصبح الكثير من المصريين يفضلون الاكتفاء بعدد أقل من الأطفال لضمان جودة حياة أفضل لهم. كما أن ارتفاع تكاليف المعيشة والأسعار، خاصة في السنوات الأخيرة، دفع العديد من الأسر إلى تقليل عدد الأطفال، تجنبًا للأعباء المالية المتزايدة. يضاف إلى ذلك تراجع القدرة على تحمل تكاليف الزواج وتأسيس الأسر، ما أدى إلى تأخير سن الزواج وبالتالي تقليص سنوات الإنجاب المتاحة للمرأة.
ورغم التفاوت الجغرافي، حيث تسجل المحافظات الحضرية معدلات إنجاب أقل بكثير من المحافظات الحدودية والريفية، إلا أن الاتجاه العام يسير نحو الانخفاض في جميع أنحاء الجمهورية، ما يعكس تغيرًا بنيويًا في المجتمع المصري.
الأضرار الاقتصادية لانخفاض الإنجاب: دروس من الدول العجوز
تقلص قوة العمل وارتفاع نسب الإعالة
أحد أبرز الأضرار الاقتصادية لانخفاض الإنجاب هو تقلص شريحة السكان في سن العمل، أي الفئة العمرية القادرة على الإنتاج، مقابل تزايد أعداد كبار السن. هذا الخلل يُضعف ديناميكية الاقتصاد، ويقلل من الإنتاجية، ويزيد من الأعباء على الجيل العامل الذي يتحمل تكاليف معاشات ورعاية كبار السن. تقلص عدد السكان في سن العمل يؤدي إلى إضعاف ديناميكية الدولة ونموها وابتكارها، حيث يكون العمال الأكبر سناً أقل إنتاجية من الشباب، كما أن قدرتهم على مواكبة التطورات التكنولوجية تكون أقل.
ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية والمعاشات
مع تقدم السكان في السن، تزداد الحاجة للإنفاق على الرعاية الصحية والمعاشات. في أوروبا، ارتفعت نسبة كبار السن إلى أكثر من خمس السكان، ويتوقع أن تواصل الارتفاع في العقود القادمة، ما يضاعف الضغوط على ميزانيات الدول ويهدد استدامة أنظمة الحماية الاجتماعية. هذا الوضع يؤدي إلى تخصيص جزء كبير من الميزانية العامة للرعاية الصحية والمعاشات، على حساب الاستثمار في التعليم والبنية التحتية والمشروعات التنموية.
تباطؤ النمو الاقتصادي
ارتبط النمو الاقتصادي منذ الثورة الصناعية بزيادة السكان، حيث وفرت الأجيال الشابة قوة عمل ضخمة وسوقًا استهلاكية نشطة. أما اليوم، فإن انخفاض المواليد يحد من حجم القوى العاملة والمستهلكين، مما يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، وتراجع الإنفاق والاستثمار. عندما يقل عدد الشباب، تتقلص الأسواق المحلية، وتصبح الشركات أقل قدرة على التوسع، كما تتراجع فرص الابتكار.
أزمة في الابتكار وريادة الأعمال
الشباب هم المحرك الأساسي للابتكار وريادة الأعمال. ومع تراجع نسبتهم، تقل فرص ظهور شركات ناشئة وأفكار جديدة، بينما تتجه المدخرات نحو استثمارات تقليدية أقل إنتاجية، مثل العقارات، ما يضر بقدرة الاقتصاد على التجدد. في الدول التي تعاني من شيخوخة السكان، لوحظ انخفاض في معدلات تسجيل براءات الاختراع وتأسيس الشركات الجديدة، وهو ما ينعكس سلبًا على التنافسية الاقتصادية.
ضغوط على سوق العمل وارتفاع البطالة الهيكلية
تواجه الدول العجوز صعوبات متزايدة في توظيف العمالة، خاصة مع خروج أعداد كبيرة من جيل طفرة المواليد إلى التقاعد، وتقلص عدد الداخلين الجدد إلى سوق العمل. يؤدي ذلك إلى اختناقات في بعض القطاعات، وارتفاع معدلات البطالة الهيكلية، خاصة بين الشباب. كما أن بعض القطاعات الحيوية مثل الرعاية الصحية والتعليم تعاني من نقص الكوادر المؤهلة، ما يهدد جودة الخدمات المقدمة.
تصاعد النزاعات بين الأجيال
مع ارتفاع نسبة كبار السن، تزداد حدة النزاعات بين الأجيال حول توزيع الموارد، وحقوق التقاعد، وأولويات الإنفاق العام، ما قد يهدد الاستقرار الاجتماعي. في بعض الدول، ظهرت حركات سياسية تطالب بإعادة النظر في أنظمة التقاعد والرعاية الصحية، وهو ما يعكس التوترات الاجتماعية الناتجة عن تغير الهيكل العمري للسكان.
خلفيات تاريخية: تجارب الدول العجوز
شهدت دول مثل اليابان وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا تحولات ديموغرافية مشابهة، حيث انخفضت معدلات الخصوبة إلى ما دون مستوى الإحلال، وارتفعت نسبة كبار السن بشكل حاد. في اليابان، على سبيل المثال، أدى ذلك إلى انكماش عدد السكان، وركود اقتصادي طويل الأمد، وزيادة الديون الحكومية بسبب ارتفاع تكاليف الرعاية الاجتماعية. أصبحت اليابان نموذجًا عالميًا لما يمكن أن تؤول إليه المجتمعات التي لا تعالج مشكلة انخفاض الإنجاب بشكل فعال، حيث تعاني اليوم من نقص حاد في العمالة، وتضطر إلى استقدام عمالة أجنبية رغم القيود الثقافية.
أما في إيطاليا وإسبانيا، فتشير التوقعات إلى انخفاض عدد السكان إلى النصف تقريبًا بحلول نهاية القرن الحالي، مع تضاعف نسبة كبار السن، ما يهدد استدامة أنظمة التقاعد والصحة العامة. في ألمانيا، ورغم قوتها الاقتصادية، إلا أن الحكومة اضطرت إلى فتح الباب للهجرة لتعويض نقص القوى العاملة، كما أطلقت برامج لدعم الإنجاب والعمل على دمج النساء بشكل أكبر في سوق العمل.
كيف تتجنب مصر مصير الدول العجوز؟
تشير التجارب الدولية إلى أن معالجة هذه التحديات تتطلب سياسات استباقية متكاملة. من أهم هذه السياسات تشجيع الإنجاب لتحقيق توازن ديموغرافي مستدام، عبر تقديم حوافز للأسر، وتحسين ظروف العمل للأمهات، وتوفير خدمات رعاية الأطفال. كما يجب إصلاح أنظمة التقاعد والصحة لمواكبة التغيرات السكانية، ورفع سن التقاعد تدريجيًا، ودعم مشاركة المرأة والشباب في سوق العمل، والاستفادة من الهجرة المنظمة لتعويض نقص القوى العاملة في بعض القطاعات.
خلاصة
رغم أن انخفاض معدلات الإنجاب في مصر يُسهم حاليًا في تحسين الخصائص السكانية وضبط النمو السكاني، إلا أن استمرار هذا الاتجاه دون سياسات استباقية قد يؤدي إلى أضرار اقتصادية جسيمة شبيهة بما حدث في الدول العجوز، حيث تهدد شيخوخة السكان النمو الاقتصادي، وتضع ضغوطًا هائلة على أنظمة الرعاية الاجتماعية، وتقلل من ديناميكية المجتمع والابتكار. لذلك، يتطلب الأمر توازناً دقيقاً بين ضبط النمو السكاني والحفاظ على قاعدة شبابية قوية تضمن استدامة الاقتصاد والمجتمع. إن الدروس المستفادة من تجارب الدول العجوز تؤكد أن الاستثمار في الإنسان، وتبني سياسات سكانية متوازنة، هو الطريق الأمثل لضمان مستقبل مزدهر لمصر.










