أعادت فضائح البنك الدولي، خاصة تلك المرتبطة باستيلاء النخب السياسية والاقتصادية على القروض والمساعدات الدولية، تسليط الضوء على ثغرات هيكلية في أنظمة الحوكمة بالدول النامية.
كشفت تقارير واستقصاءات متعددة أن الأموال المخصصة للتنمية غالبًا ما تُحوَّل إلى حسابات شخصية في الملاذات الضريبية، بينما تبقى الشعوب تغرق في أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة.



يرصد هذا التقرير تداعيات هذه الفضيحة على ثلاث دول تشكل نموذجًا للانهيار التنموي المقنّع: لبنان، نيجيريا، ومصر، مع تحليل للسياقات السياسية والاقتصادية التي سمحت بحدوث هذه الانتهاكات.
في لبنان، شكّل انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 نقطة تحول في تعاطي المجتمع الدولي مع النظام اللبناني.
فبينما تدفقت المساعدات الدولية بشكل عاجل لإعادة الإعمار، كشفت تقارير أممية أن 62% من هذه المساعدات لم تصل إلى مستحقيها بسبب غياب الشفافية وتلاعب الجهات الرسمية بالأرقام والتكاليف.
وقد فجر البنك الدولي في فبراير 2021 فضيحة جديدة حين كشف عن تلقي 16 نائبًا وأربعة مديرين عامين لقاحات كورونا خارج المنصة الرسمية، ما دفع البنك إلى تهديد بوقف تمويل بقيمة 34 مليون دولار.
التحقيقات بيّنت أن نحو ربع الجرعات المخصصة للفئات الضعيفة انتهت في أذرع السياسيين، في مشهد يعكس الفساد الممنهج الذي دمّر الثقة بالمؤسسات الدولية.
ولم تتوقف الانتهاكات عند ملف الصحة، بل امتدت إلى مشاريع القروض التنموية، حيث أظهرت دراسة أجراها موقع “درج” أن نحو 45% من قروض الاتحاد الأوروبي للبنان بين 2015 و2020 – والبالغة 1.2 مليار يورو – تم تحويلها عبر شركات وهمية إلى حسابات خارجية.
أما مشروع “سد بسري”، الذي كان من المفترض أن يعالج أزمة المياه في الجنوب اللبناني، فبلغت نسبة تنفيذه 12% فقط، رغم حصوله على قرض بقيمة 474 مليون دولار.
مع نهاية 2023، تم تعليق 40% من المساعدات الدولية للبنان، معظمها في قطاعي التعليم والصحة، ما زاد منسوب الانهيار الاجتماعي في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة.
في نيجيريا، اكتسب الفساد طابعًا مؤسسيًا منذ ثمانينيات القرن الماضي، حين فرض البنك الدولي برنامج خصخصة شمل 67 شركة حكومية.
أظهرت تقارير صحفية أن 60% من هذه الصفقات تمت بعروض أقل من القيمة السوقية بنسبة 30 إلى 40% لصالح شخصيات مقربة من السلطة.
ويبدو أن النفط كان الأداة الأبرز في هذا النهب، إذ كشفت وثائق “بنما” عن قيام عائلة الرئيس السابق غودلاك جوناثان بتحويل أكثر من 1.3 مليار دولار إلى حسابات سرية في جزر العذراء البريطانية بين 2010 و2015.
ووفقًا لدراسة من جامعة كوبنهاغن، فإن 15% من عائدات النفط النيجيري تختفي سنويًا في ملاذات ضريبية.
رغم حصول نيجيريا على قروض تتجاوز 12 مليار دولار بين عامي 2000 و2020 من البنك الدولي، فإن نسبة الفقر ارتفعت من 54% إلى 63%، ما يعكس فشل آليات المراقبة والمساءلة.
أما في مصر، فقد كشفت تداعيات برنامج الإصلاح الاقتصادي الممول من صندوق النقد الدولي عن حجم الضغط الاجتماعي الناتج عن تقليص الدعم وارتفاع الأسعار.
انخفضت قيمة الجنيه بنسبة 50% بين 2022 و2023، وقفز معدل التضخم إلى 37%، بينما أظهرت دراسة صادرة عن مركز البديل للتخطيط أن 28% من الأسر قلّصت استهلاكها من البروتين الحيواني بنسبة 40%.
وعلى وقع هذه الأزمات، تفجّرت قضية نوال الدجوي، إحدى أبرز رموز التعليم الخاص، بعد العثور على مبالغ ضخمة من العملات الأجنبية والسبائك الذهبية في فيلتها بالقاهرة، في أعقاب مقتل حفيدها أحمد الدجوي في ظروف غامضة.
التحقيقات أشارت إلى وجود صلة بين هذه الأموال وبرامج تمويل دولية مخصصة لتطوير التعليم، ما فجّر موجة غضب شعبي وتساؤلات حول مصير القروض الأجنبية.
الفساد في مصر لم يقتصر على التعليم، بل امتد إلى مشاريع البنية التحتية. حيث أظهرت تحقيقات هيومن رايتس ووتش أن 35% من المشاريع الممولة من قروض دولية بين 2016 و2023 تم منحها مباشرة لشركات تابعة لجهات سيادية دون مناقصات علنية، في خرق صريح لقواعد الشفافية الدولية.
مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، الذي تصل كلفته إلى 58 مليار دولار، خُصص منه 60% لشركات سيادية.
كما أدى إلغاء دعم الوقود في 2022 إلى رفع تكاليف النقل بنسبة 70%، ما أثّر على أكثر من 12 مليون عامل في القطاع غير الرسمي، بينما بيّن تقرير للبنك المركزي أن 43% من الأسر المصرية سحبت أبناءها من المدارس الخاصة بسبب الضغوط الاقتصادية.
تضع هذه الوقائع مجتمعة علامات استفهام حقيقية حول دور البنك الدولي ومؤسسات التمويل في تعزيز التنمية، حيث تحوّلت القروض إلى أداة لتكريس الفساد بدلًا من محاربته.
وتُظهر دراسات حديثة أن تطبيق آليات تتبع مالية قائمة على تقنيات البلوك تشين يمكن أن يقلل من نسبة التسرب المالي إلى أقل من 1.5%.
كما أن إشراك منظمات المجتمع المدني في عمليات الرقابة قد يرفع من مستويات الشفافية بنسبة تصل إلى 40%، كما حدث في تجربة كولومبيا.
لكن هذه الحلول التقنية تبقى ناقصة دون إرادة سياسية داخلية لإصلاح منظومات الحكم، وقطع علاقة التواطؤ بين النخب الفاسدة والمؤسسات الدولية.
تُظهر الأمثلة من لبنان ونيجيريا ومصر أن منظومة التمويل الدولي لا تعاني فقط من ثغرات رقابية، بل من اختلال جوهري في آليات المساءلة يتيح للنخب التلاعب بالمساعدات والقروض دون تبعات حقيقية. سواء عبر تحويل المليارات إلى ملاذات ضريبية، أو توجيه المشاريع التنموية نحو شركات محسوبة على السلطة، فإن النتيجة واحدة: تآكل الثقة بالمؤسسات الدولية، وتفاقم الفقر واللاعدالة الاجتماعية.
قضية فيلا نوال الدجوي وما كُشف عنها من أموال هائلة، ومقتل حفيدها في ظروف غامضة، ليست مجرد حدث جنائي، بل إشارة دامغة إلى أن شبكات الفساد تملك نفوذًا اقتصاديًا وأمنيًا عابرًا للحدود. أما لبنان، فإن انهيار الثقة بالمساعدات بعد انفجار مرفأ بيروت شكّل لحظة كاشفة لمدى التلاعب بأرقام وتكاليف المشاريع، مقابل غياب الشفافية والمحاسبة.
من هنا، فإن الحل لا يكمن فقط في إصلاح البنك الدولي أو فرض شروط تقنية جديدة، بل في ربط أي تمويل دولي بإصلاحات سياسية عميقة تشمل القضاء والإعلام والمجتمع المدني، مع تطبيق أدوات تكنولوجية مثل البلوك تشين لتتبع حركة الأموال. بدون ذلك، ستبقى المساعدات الدولية وقودًا إضافيًا لنار الفساد، وليس وسيلة لإطفائه.










