في مشهد عبثي يتكرر بلا نهاية، تتحول كرة القدم المصرية من لعبة شعبية إلى حلبة محسوبية وقرارات عبثية، تُهدر فيها الملايين على مدربين فاشلين وتُقصى الكفاءات لمجرد غياب “الواسطة”.
وبينما تنهض الكرة العالمية على أسس الاحتراف والحوكمة، تواصل الأندية المصرية إهدار فرص التطور باختيار نماذج مثل القبرصي نيكوديموس بابا فاسيليو، الذي بات اسمه مرادفًا لفشل مستمر تتجاهله إدارات الأندية المصرية، وتكافئه بالمزيد من الفرص، لا لشيء سوى أن معيار النجاح في مصر ليس النتائج بل “العلاقات”.
إنها قصة مدرب فاشل، لكنها في جوهرها قصة فساد الكرة المصرية وانهيار منظومة رياضية تُدار بالمجاملات لا بالكفاءة، في بيئة يغيب فيها مفهوم الشفافية والحوكمة.
تكشف حالة المدرب القبرصي نيكوديموس بابا فاسيليو عن أزمة عميقة تعصف بصناعة كرة القدم المصرية، حيث تتجلى مظاهر الفساد والمحسوبية في استمرار منح الفرص للمدربين الفاشلين بينما تغرق المنظومة الكروية في دوامة من التراجع والعشوائية.
فرغم سجله المليء بالإخفاقات، خاض فاسيليو أربع تجارب في الدوري المصري مع وادي دجلة وغزل المحلة والبنك الأهلي والاتحاد السكندري، محققاً 18 فوزاً فقط من أصل 64 مباراة بمعدل فوز لا يتجاوز 28%.
هذا النموذج الصارخ يعكس منظومة أوسع من الفساد الإداري الذي يقوض أسس الكرة المصرية، في الوقت الذي تشهد فيه النماذج الدولية الناجحة نهضة حقيقية قائمة على معايير الكفاءة والشفافية والحوكمة الرشيدة.
فساد متجذر ومحسوبية مدمرة
تعاني الكرة المصرية من أزمة بنيوية عميقة تتجلى في عدة مظاهر متشابكة، حيث أكد اللاعب الدولي السابق أحمد حسام ميدو أن “نظام إدارة كرة القدم في مصر، يعين أشخاصاً غير مؤهلين في مناصب مهمة، للتحكم في قراراتهم والمجاملة، والنتيجة دوري فاشل يزداد سوءاً، ومنتخبات ضعيفة”.
هذا التشخيص الحاد يكشف عن جوهر الأزمة التي تتمثل في غياب معايير الكفاءة والاحترافية في عمليات التوظيف والإدارة.
الواقع المؤلم للكرة المصرية لا يقتصر على ضعف النتائج الفنية، بل يمتد إلى انهيار منظومة القيم والمعايير المهنية التي يجب أن تحكم أي صناعة رياضية ناجحة.

تتجلى مظاهر الأزمة في قرارات إدارية مثيرة للجدل، منها قرار رابطة الأندية المصرية المحترفة بإلغاء الهبوط من الدوري الممتاز للموسم الحالي 2024-2025 “استجابة لطلبات الأندية”.
هذا القرار الذي اتخذه 15 نادياً في غياب أندية مهمة مثل الزمالك وبيراميدز وحرس الحدود، يعكس منطق المجاملات والمصالح الضيقة على حساب المنافسة الرياضية الشريفة.
إن إلغاء نظام الهبوط والصعود يضرب في الصميم مبدأ الاستحقاق الرياضي ويحول الدوري إلى مسابقة شكلية لا قيمة تنافسية حقيقية لها.
شبكات المحسوبية وتأثيرها على القرارات الفنية
يشكل نموذج بابا فاسيليو مثالاً صارخاً على كيفية عمل شبكات المحسوبية في الكرة المصرية، حيث حصل على أربع فرص تدريبية رغم نتائجه المتواضعة التي تضمنت 26 هزيمة من أصل 64 مباراة.
هذا المعدل الكارثي للهزائم الذي يصل إلى 40% يثير تساؤلات جوهرية حول آليات اختيار المدربين في الأندية المصرية.
الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو استمرار منح الفرص لمدرب حاصل على رخصة UEFA Pro لكنه فشل في ترجمة هذه الشهادة الورقية إلى نتائج ملموسة على أرض الملعب.
تكشف تصريحات فاسيليو نفسه عن طموحات غير واقعية عندما قال “أتمنى يوماً أن أكون مدرباً لمنتخب مصر أو أحد الأندية الثلاثة الكبار”، وهو تصريح يبدو منقطع الصلة عن واقع أدائه الفني المتدني.
هذا النوع من التفكير يعكس ثقافة الاستحقاق المزيف التي تسود في بيئة المحسوبية، حيث يعتقد الأشخاص أنهم يستحقون مناصب أكبر بغض النظر عن مستوى أدائهم أو إنجازاتهم الفعلية.
الفساد الإداري والمالي في الأندية المصرية
تتجاوز مظاهر الفساد في الكرة المصرية القرارات الفنية لتشمل الجوانب المالية والإدارية، حيث أشار ميدو إلى وجود “يوجد مدربون لا علاقة لهم بعلم التدريب الحديث، وجمهور معظمه مشحون، يُنقل في حافلات تابعة لأحزاب سياسية، وإعلاميون يدعمون لاعبين معينين، لأنهم أبناء شخصيات مهمة”.
هذا الوصف يكشف عن تداخل المصالح السياسية والاجتماعية مع القرارات الرياضية، مما يؤدي إلى تشويه المنافسة العادلة وتقويض مبادئ الجدارة والاستحقاق.
تشهد الكرة المصرية أيضاً ظاهرة التضخم غير المبرر في رواتب اللاعبين، حيث “تتضخم رواتب اللاعبين بصورة غير مسبوقة، في ظل ضعف الأداء العام وعدم تحقيق النتائج المطلوبة”.
هذا التناقض بين المقابل المالي والأداء الفني يعكس اختلال الأولويات في إدارة الأندية، حيث تُصرف الأموال على أساس المحسوبية والعلاقات الشخصية وليس على أساس الجدارة الرياضية.
النماذج الدولية الناجحة: دروس في الشفافية والحوكمة
النموذج الألماني: التطوير المستدام والشفافية
يقدم الدوري الألماني نموذجاً متقدماً في الحوكمة الرياضية والتطوير المستدام، حيث يحتل حالياً المركز الثالث في أوروبا وفقاً لتصنيف الاتحاد الأوروبي لكرة القدم.
يتميز النظام الألماني بالشفافية في التحكيم من خلال إدخال تقنيات متطورة مثل إعلان الحكام لقراراتهم عبر مكبرات الصوت في الملعب بعد تدخل حكم الفيديو المساعد. هذا المستوى من الشفافية يعكس التزاماً حقيقياً بمبادئ العدالة والوضوح التي تفتقر إليها الكرة المصرية.
الأهم من ذلك هو التطوير الثوري في منهجية تدريب الناشئين، حيث تبنت ألمانيا مبادئ “كرة الشوارع” في أكاديمياتها.
هذا التغيير الجذري جاء بعد “الإخفاقات المتواصلة لفرق الفئات السنية للمنتخب الألماني في البطولات الدولية”، مما يدل على قدرة النظام الألماني على النقد الذاتي والتطوير المستمر.
تركز هذه المنهجية على تطوير الإبداع والتفكير التكتيكي لدى الصغار بدلاً من التركيز على الانضباط الصارم والتدريبات التقليدية.
النموذج البريطاني: الرقابة المستقلة والحوكمة الصارمة
يشكل النموذج البريطاني مثالاً متقدماً في الحوكمة الرياضية من خلال إنشاء هيئة تنظيمية مستقلة لكرة القدم.
هذه الهيئة “مستقلة عن كل من الحكومة وسلطات كرة القدم” ولها صلاحيات واسعة تشمل “منع المسابقات الانفصالية، مثل الدوري الأوروبي الممتاز، وصلاحيات حول التوزيع المالي ومراقبة المالكين ومديري الأندية المحتملين”.
هذا النظام يضمن وجود رقابة حقيقية ومستقلة على القرارات المالية والإدارية في الأندية.
يتميز النظام البريطاني أيضاً بالشفافية المالية والمحاسبة الصارمة، حيث تتحمل الأندية تكلفة تمويل الهيئة التنظيمية من خلال “ضريبة على الأندية الخاضعة للنظام التنظيمي”.
هذا النموذج يضمن الاستدامة المالية للرقابة ويجعل الأندية شريكة في تحمل مسؤولية الحوكمة الرشيدة. العبء الأكبر يقع على الأندية الأكثر ثراءً، مما يضمن العدالة في التوزيع المالي ويمنع استغلال القوة المالية للتلاعب بالأنظمة.
مقارنة الأداء: كفاءة النماذج الناجحة مقابل فشل النموذج المصري
عند مقارنة الأداء بين النماذج الدولية الناجحة والواقع المصري، تتضح الفجوة الهائلة في مستوى الاحترافية والتنظيم.
بينما يحقق بابا فاسيليو معدل فوز لا يتجاوز 28% في الدوري المصري، نجد أن المدربين في الدوريات الأوروبية الكبرى يخضعون لمعايير صارمة للأداء ويتم تقييمهم بناءً على مؤشرات محددة وقابلة للقياس.
النجاح في هذه الدوريات لا يأتي من المحسوبية أو العلاقات الشخصية، بل من القدرة على تحقيق النتائج وتطوير اللاعبين والفرق.
الفارق الجوهري يكمن في وجود آليات رقابة فعالة ومستقلة في النماذج الناجحة، بينما تفتقر الكرة المصرية إلى مثل هذه الآليات.
رابطة الأندية المصرية التي تضم “عضو من كل نادٍ مشارك في الدوري المصري الممتاز، بالإضافة إلى عضوين يتم تزكيتهما من اتحاد الكرة”، تعاني من تضارب المصالح وغياب الاستقلالية الحقيقية. هذا التداخل في المصالح يجعل من الصعب اتخاذ قرارات موضوعية تصب في مصلحة تطوير اللعبة.
التداعيات طويلة المدى والحاجة للإصلاح الجذري
تأثير الفساد على الجيل الجديد والجماهير
تشير تصريحات ميدو إلى تداعيات خطيرة على الجيل الجديد من الجماهير، حيث قال “الجمهور أصبح واعياً، ويعلم حجم الفساد والمجاملات في الكرة المصرية، هناك جيل جديد غير مهتم بمتابعة الدوري المصري أو أخباره، ولا يعرف أسماء معظم لاعبي المنتخب”.
هذا الانصراف الجماهيري ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل يعكس فقدان الثقة في المنظومة الكروية بأكملها. عندما تفقد الرياضة قاعدتها الجماهيرية، فإنها تفقد جوهرها ووظيفتها الاجتماعية والثقافية.
تأثير هذا الانصراف يمتد إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، حيث تتراجع العوائد التسويقية والإعلانية للدوري، مما يقلل من الموارد المتاحة لتطوير البنية التحتية وتحسين جودة المنافسات.
الأخطر من ذلك هو فقدان الدور التربوي والاجتماعي للرياضة، حيث تتحول من أداة لبناء القيم الإيجابية إلى مثال على الفساد والمحسوبية.
ضرورة الإصلاح الهيكلي والحوكمة الرشيدة
يتطلب إصلاح الكرة المصرية تدخلاً جذرياً يشمل إعادة هيكلة المنظومة الإدارية وإرساء مبادئ الحوكمة الرشيدة.
هذا الإصلاح يجب أن يبدأ بإنشاء هيئة رقابية مستقلة على غرار النموذج البريطاني، تتمتع بصلاحيات واسعة في مراقبة الأداء المالي والإداري للأندية ورابطة الأندية واتحاد الكرة.
هذه الهيئة يجب أن تضع معايير واضحة وقابلة للقياس لتقييم الأداء، وتطبق عقوبات صارمة على المخالفين.
كما يتطلب الإصلاح وضع آليات شفافة لاختيار المدربين والإداريين، تعتمد على الكفاءة والخبرة والإنجازات المثبتة وليس على العلاقات الشخصية أو المحسوبية.
يجب أن تخضع عمليات التوظيف لمعايير دولية واضحة، مع إجراء تقييمات دورية للأداء وربط الاستمرار في المناصب بتحقيق أهداف محددة ومعلنة مسبقاً.
تكشف حالة بابا فاسيليو عن أزمة عميقة في صناعة كرة القدم المصرية، حيث تسود المحسوبية والفساد على حساب الكفاءة والاحترافية.
بينما تشهد النماذج الدولية الناجحة مثل ألمانيا وبريطانيا تطوراً مستمراً قائماً على الشفافية والحوكمة الرشيدة، تستمر الكرة المصرية في التراجع بسبب القرارات العشوائية وغياب المعايير المهنية.
إن استمرار منح الفرص للمدربين الفاشلين وإلغاء أنظمة المنافسة العادلة واتخاذ قرارات إدارية مبنية على المجاملات، كلها مؤشرات على أزمة بنيوية تتطلب تدخلاً جذرياً وإصلاحاً شاملاً.
إن مستقبل الكرة المصرية يتوقف على الإرادة السياسية والرياضية للتخلص من شبكات الفساد والمحسوبية، وإرساء نظام جديد قائم على الشفافية والاحترافية والاستحقاق.
بدون هذا الإصلاح الجذري، ستستمر الكرة المصرية في التراجع، وستفقد أجيال جديدة من الجماهير والمواهب، مما يهدد مستقبل هذه الرياضة الشعبية في مصر.










