في ليالي العيد، كانت مصر تفيض بالفرح، وتزدان شوارعها بألوان الأمل، وتتعالى ضحكات الأطفال وهم ينتظرون نصيبهم من الأضاحي. لكن مع قدوم عيد الأضحى لعام 2025، تبدلت الأحوال، وبدت الفرحة باهتة في عيون ملايين المصريين. صارت الأضحية حلمًا بعيدًا، وأصبح شراء كيلو لحم رفاهية لا يقدر عليها إلا القليل. بين أزمات اقتصادية متتالية، وتضخم يلتهم القوت، وانهيار للجنيه أمام الدولار، تحولت أيام العيد من موسم للبهجة إلى اختبار قاسٍ لصبر الناس على ضيق العيش ومرارة الواقع.
أزمات اقتصادية
على مدار السنوات الأخيرة، واجهت مصر سلسلة من الأزمات الاقتصادية الحادة. تراجعت قيمة الجنيه المصري بشكل غير مسبوق، حتى تجاوز سعر الدولار 50 جنيهًا في 2025، بعد أن كان أقل من 20 جنيهًا قبل ثلاث سنوات فقط. هذا الانهيار انعكس مباشرة على أسعار كل السلع، خاصة اللحوم، التي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني. لم يعد التضخم مجرد رقم في نشرات الأخبار، بل صار واقعًا يعيشه المواطن في كل تفاصيل يومه، من رغيف الخبز إلى كيلو اللحم.
ترافق ذلك مع جمود في متوسط الأجور، إذ بلغ متوسط الراتب الشهري حوالي 9,325 جنيهًا، بينما الحد الأدنى للأجور يتراوح بين 6,000 و7,500 جنيه شهريًا. في المقابل، قفزت أسعار اللحوم والأضاحي إلى مستويات تفوق قدرة معظم الأسر، ما جعل الاحتفال بالعيد عبئًا ثقيلًا بدلًا من أن يكون مناسبة للفرح.

أسعار اللحوم في مصر مع قرب عيد الأضحى 2025
تشهد الأسواق المصرية ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار اللحوم مع اقتراب عيد الأضحى. في المنافذ الحكومية، بلغ سعر كيلو اللحم الكندوز البلدي بين 280 و350 جنيهًا، بينما وصل في الأسواق إلى 384-426 جنيهًا. أما الضأن البلدي فبلغ في المنافذ 280-300 جنيه وفي الأسواق حتى 426 جنيهًا. اللحم الجملي استقر عند 230 جنيهًا في المنافذ. أما الأضاحي الحية، فسجل الخروف البلدي الكامل بين 9,000 و12,000 جنيه، والعجل البلدي الكامل بين 60,000 و80,000 جنيه، بينما تراوح سعر كيلو العجل القائم بين 180 و195 جنيهًا.
مقارنة الأسعار بمتوسط الأجور: فجوة تتسع بلا رحمة
عند مقارنة أسعار اللحوم الحالية بمتوسط الرواتب، تتضح الفجوة الهائلة التي تعاني منها الأسر المصرية. إذا كان متوسط الراتب الشهري 9,325 جنيهًا، فإن شراء 10 كيلوجرامات من اللحم الكندوز قد يستهلك ما بين 3,000 و4,000 جنيه، أي ثلث أو نصف الدخل الشهري. أما الأضحية الكاملة، فقد تتجاوز قيمتها راتب شهرين أو أكثر، ما يجعل الأضحية حلمًا بعيد المنال لغالبية الأسر، ويضطر البعض للاكتفاء بشراء كميات ضئيلة أو حتى الاستغناء عن الأضحية تمامًا.

التحليل الاقتصادي: كيف أوصلتنا السياسات إلى هنا؟
يرى خبراء الاقتصاد أن الأزمة الحالية ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات وسياسات اقتصادية ومالية وُصفت بـ”الفاشلة”. الاعتماد المفرط على القروض الخارجية، مع غياب إصلاحات هيكلية حقيقية، أدى إلى تضخم الدين العام وتآكل الاحتياطي النقدي. مشاريع قومية ضخمة لم تحقق العائد المنتظر، بينما تراجعت الإنتاجية الزراعية والحيوانية، وارتفعت أسعار الأعلاف المستوردة مع انهيار الجنيه.
أدى هذا كله إلى ارتفاع تكلفة تربية المواشي، فانعكس على أسعار اللحوم والأضاحي. ومع استمرار التضخم، الذي بلغ 13.9% في أبريل 2025، تآكلت القوة الشرائية للجنيه، وتراجعت مستويات المعيشة حتى للطبقة المتوسطة، التي لم تعد قادرة على مجاراة وتيرة الغلاء.

البعد الاجتماعي: من فرحة العيد إلى عبء ثقيل
لم يعد العيد كما كان. كثير من الأسر المصرية باتت عاجزة عن شراء الأضحية أو حتى كيلو لحم. انتشرت حملات التكافل الاجتماعي، لكن حجم الأزمة أكبر من أن تحلها المبادرات الفردية. الأطفال الذين كانوا ينتظرون بهجة العيد، صاروا اليوم يسألون آباءهم عن سبب غياب الأضحية عن البيت. أما الكبار، فيحملون همّ الأسعار والديون، ويبحثون عن حلول مؤقتة في ظل غياب أفق واضح لتحسن الأوضاع.
رؤى مستقبلية وحلول مطلوبة
لا يمكن الخروج من هذه الأزمة إلا بإصلاحات اقتصادية جذرية، تبدأ بدعم الإنتاج المحلي وتطوير منظومة الزراعة والثروة الحيوانية، وتخفيض الاعتماد على الاستيراد، وضبط الأسواق، ورفع الحد الأدنى للأجور بما يتناسب مع تكلفة المعيشة الحقيقية. كما يجب إعادة النظر في السياسات المالية والنقدية، والعمل على استقرار سعر الصرف، وتشجيع الاستثمار المنتج لا الريعي.
الخلاصة: العيد في زمن الغلاء
تحول عيد الأضحى في مصر من مناسبة للفرحة والتكافل إلى موسم للقلق والحيرة. أسعار اللحوم والأضاحي صارت نارًا تلتهم دخول المصريين، وتآكلت الأجور أمام موجات الغلاء، وسط سياسات اقتصادية عاجزة عن كبح جماح التضخم أو حماية الجنيه. وبينما ينتظر المصريون الفرج، يبقى العيد هذا العام شاهدًا على أزمة اقتصادية واجتماعية عميقة سرقت من الناس بهجة كانوا ينتظرونها كل عام.







