تشهد الأسواق المالية العالمية تحولاً لافتاً في سياسات الاقتراض السيادي، حيث تتجه حكومات آسيا وأوروبا بشكل متسارع إلى تقليص إصدار الديون السيادية المقومة بالدولار الأمريكي، مفضلة الإصدارات بالعملات المحلية أو الإقليمية. هذا التحول لا يأتي من فراغ، بل يعكس ديناميكيات اقتصادية ومالية عميقة تتفاعل مع تطورات النظام المالي العالمي، وتداعيات ارتفاع عوائد السندات الأمريكية، وتقلبات أسعار الصرف، والمخاوف المتزايدة بشأن الاستقرار المالي الأمريكي.
خلفيات اقتصادية: لماذا تتراجع شهية الديون الدولارية؟
انخفاض عالمي في إصدارات السندات الدولارية: تراجعت إصدارات السندات المقومة بالدولار بنسبة 19% خلال الأشهر الخمسة الأولى من 2025 مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، لتسجل 86.2 مليار دولار فقط، وهو أدنى مستوى منذ ثلاث سنوات.
ارتفاع حاد في الإصدارات المحلية: في المقابل، ارتفعت إصدارات السندات السيادية بالعملات المحلية إلى أعلى مستوى في خمس سنوات، متجاوزة 326 مليار دولار حتى الآن هذا العام.
دوافع التحول: يعود هذا التغير إلى رغبة الحكومات في تجنب تداعيات ارتفاع عوائد السندات الأمريكية، التي تجاوزت مستويات لم تشهدها منذ 2007، وتقلب أسعار صرف الدولار، والمخاوف بشأن استدامة الدين الأمريكي.
أبعاد الأزمة: من عوائد السندات إلى مخاطر النظام المالي
ارتفاع عوائد السندات الأمريكية: أدى رفع الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة إلى ارتفاع عوائد السندات الأمريكية لأجل 10 سنوات إلى مستويات تاريخية، ما رفع تكلفة الاقتراض عالمياً وأثر سلباً على اقتصادات أوروبا وآسيا، خاصة تلك التي تعتمد على التمويل الدولاري.
تأثيرات العدوى المالية: ارتفاع العوائد لا يهدد فقط الاقتصاد الأمريكي، بل يمتد أثره إلى النظام المالي العالمي، مع احتمالات حدوث ركود اقتصادي وإفلاس بعض البنوك، كما حدث في أمريكا خلال مارس الماضي.
انكشاف الأسواق الناشئة: البلدان التي تحتفظ بجزء كبير من ديونها بالدولار أو العملات الأجنبية تصبح أكثر عرضة لارتفاع تكاليف خدمة الدين مع كل ارتفاع في سعر الفائدة الأمريكية أو تراجع في قيمة عملاتها المحلية.
تداعيات العملة: تقلبات الصرف وسباق الملاذات الآمنة
تأثير الدولار القوي: ارتفاع الدولار الأمريكي رفع تكلفة سداد الديون على الحكومات والشركات خارج الولايات المتحدة، وأجبر العديد من البنوك المركزية في آسيا وأوروبا على التدخل لدعم عملاتها أو رفع الفائدة المحلية.
التحوط بالعملات المحلية: تفضيل الإصدارات المحلية يمنح الحكومات مرونة أكبر في إدارة ديونها، ويقلل من مخاطر تقلبات أسعار الصرف، ويساعد على تعزيز الاستقرار المالي الداخلي.
تجارب بارزة: السعودية، على سبيل المثال، جمعت أكثر من 2.25 مليار يورو عبر سندات مقومة باليورو، في إطار استراتيجية لتنويع مصادر التمويل بعيداً عن الدولار.
التحولات الجيوسياسية: من حرب الرسوم إلى أزمة الثقة
الرسوم الجمركية والتوترات التجارية: تصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين وفرض رسوم جمركية ضخمة أضر بثقة المستثمرين في الأصول الأمريكية، ودفع رؤوس الأموال للبحث عن بدائل خارج الدولار.
مخاوف من أزمة ديون أمريكية: الارتفاع الكبير في معروض السندات الأمريكية، مع تزايد الاحتياجات التمويلية، يرفع من مخاطر التضخم ويزيد من كلفة خدمة الدين على الحكومة الأمريكية، ما يثير قلق المستثمرين الدوليين.
السيناريوهات المستقبلية: هل نحن أمام نظام مالي جديد؟
تنويع مصادر التمويل: تدرس دول مثل البرازيل إصدار سندات باليوان الصيني، في خطوة تعكس التحول نحو عملات بديلة وتقليل الاعتماد على الدولار.
تداعيات على الأسواق الناشئة: استمرار ارتفاع الفائدة الأمريكية سيضغط على العملات المحلية للدول النامية، ويرفع مخاطر التخلف عن السداد، ويزيد من احتمالات العدوى المالية.
تحديات أمام الدولار: رغم أن الدولار لا يزال العملة المهيمنة في الأسواق الدولية، إلا أن التحولات الجارية قد تضعف من مكانته تدريجياً إذا استمرت المخاوف بشأن الاستقرار المالي الأمريكي وارتفعت وتيرة الإصدارات بالعملات البديلة.
خلاصة:
في ظل هذه التحولات، يتضح أن العالم المالي يقف عند مفترق طرق تاريخي. فبينما كان الدولار لعقود هو “الملك المتوج” في أسواق الدين العالمية، بدأت الحكومات تبحث عن ملاذات جديدة أكثر أماناً واستقراراً. هل نشهد بداية نهاية عصر الهيمنة الدولارية؟ أم أنها مجرد موجة مؤقتة سرعان ما تتلاشى مع تبدد المخاوف؟ الإجابة ستتحدد في ضوء قرارات البنوك المركزية، وتطورات الاقتصاد الأمريكي، وقدرة الأسواق الناشئة على الصمود في وجه العواصف المالية القادمة.











