تشهد الساحة الإقليمية تطورًا لافتًا يتمثل في تزايد العمليات الفردية التي ينفذها مواطنون مصريون ضد أهداف إسرائيلية، في ظاهرة تعكس عمق الرفض الشعبي للتطبيع مع إسرائيل رغم مرور عقود على اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية.
آخر هذه العمليات كانت هجوم كولورادو الذي نفذه محمد صبري سليمان في يونيو 2025، والذي استهدف مسيرة مؤيدة لكيان العدو الصهيوني وأسفر عن إصابة ستة أشخاص أحدهم في حالة حرجة.
تأتي هذه العملية في سياق سلسلة من الحوادث المشابهة التي شملت عملية محمد صلاح في معبر العوجة عام 2023، وحادثة الإسكندرية في نفس العام، مما يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعة هذه الظاهرة ودوافعها السياسية والاجتماعية والنفسية.
العمليات الفردية الرئيسية وتطورها التاريخي
محمد صبري سليمان: عملية كولورادو 2025
كشفت مصادر أمنية أمريكية أن محمد صبري سليمان، مواطن مصري يبلغ من العمر 45 عامًا، هو المشتبه به في هجوم بولدر الذي استهدف مجموعة مؤيدة لإسرائيل قرب محكمة مقاطعة بولدر في ولاية كولورادو.
دخل سليمان إلى الولايات المتحدة بتأشيرة سياحية في أغسطس 2022 خلال إدارة الرئيس جو بايدن، وكان يُفترض أن يغادر البلاد في فبراير 2023، لكنه أقام بشكل غير قانوني بعد انتهاء صلاحية تأشيرته. قدم سليمان طلب هجرة في سبتمبر 2022، وحصل على تصريح عمل مؤقت في مارس 2023، إلا أن صلاحيته انتهت في مايو 2024، دون أن يتم ترحيله من الأراضي الأمريكية.
استهدف سليمان مجموعة “اركض من أجل حياتهم”، وهي مجموعة تنظم فعاليات أسبوعية تطالب بالإفراج عن الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس.
خلال الهجوم، كان سليمان يهتف “حرية لفلسطين”، مستخدمًا مواد حارقة أسفرت عن إصابة 6 أشخاص تتراوح أعمارهم بين 67 و88 عامًا، من بينهم حالة حرجة.
وصفت السلطات الأمريكية الحادث بأنه “عمل إرهابي بدوافع أيديولوجية”، وألقت القبض على سليمان وأودعته سجن مقاطعة بولدر.
محمد صلاح: عملية معبر العوجة 2023
نفذ الجندي المصري محمد صلاح إبراهيم، البالغ من العمر 22 عامًا، عملية في يونيو 2023 عند نقطة حراسة إسرائيلية قرب معبر نيتسانا (معبر العوجة)، ما أسفر عن مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين.
وُلد محمد صلاح في عام 2001 في منطقة عين شمس شمال شرق محافظة القاهرة، ونشأ في أسرة متواضعة وكان يعولها مع شقيقه الأكبر محمود بعد وفاة والده في حادث سير.
بدأ صلاح فترة التجنيد الإلزامي في يونيو 2022 بقطاع الأمن المركزي في الشرطة المصرية، وقضى فترة تجنيده في محافظة شمال سيناء.
تحوّل محمد صلاح عقب عمليته إلى أيقونة شعبية في مصر، مثلما حصل مع سليمان خاطر من قبل. وسائل إعلام إسرائيلية تشير إلى أن اختيار الشهيد محمد صلاح لهذا المعبر الذي تم إنشاؤه بناءً على اتفاق مصري إسرائيلي، وأدرج في اتفاقية “كامب دايفيد”، بمثابة “رسالة على أنه لا يمكن لاتفاقية أن تحمي إسرائيل”.
اللافت في عملية الشهيد صلاح قرب معبر العوجة أنها أحدثت إرباكًا واسعًا داخل الكيان الإسرائيلي، وأعادت تسليط الضوء من جديد على فشل مخطط التطبيع مع شعوب المنطقة العربية.
حادثة الإسكندرية: عمود الصواري 2023
وقع حادث إطلاق النار في الإسكندرية في 8 أكتوبر 2023، بحي المنشية، عندما أطلق أمين شرطة مصري النار من سلاحه الشخصي على مجموعة من السياح الإسرائيليين خلال زيارتهم لمنطقة عمود السواري.
أسفر الهجوم عن مقتل سائحين إسرائيليين، بالإضافة إلى مقتل مرشد سياحي مصري وإصابة آخر. ذكرت بعض المواقع أن المنفذ هو أمين شرطة يدعى محمد عبد المجيد وأن الحادث جاء بعد مشادة بينه وبين أفراد الفوج السياحي الإسرائيلي نتيجة إصرارهم على التصوير بالعلم الإسرائيلي.
جاء الهجوم في خضم عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها الفصائل الفلسطينية قبل يوم من الحادث. وأظهرت لقطات فيديو جثث ضحايا حادث الإسكندرية حيث قتل إسرائيليان ومصري بعد إطلاق النار العشوائي من جانب العنصر الأمني المصري. وشوهد آخر يتلقى المساعدة من مجموعة من الرجال، فيما سمعت امرأة تصرخ طلبا للإسعاف.
سليمان خاطر: رأس برقة 1985
سليمان محمد عبد الحميد خاطر (1961 – 7 يناير 1986) كان أحد عناصر قوات الأمن المركزي المصري، أطلق النار على مجموعة من السياح الإسرائيليين عند نقطة حراسته التي تقع بالقرب من منتجع رأس برقة بمنطقة نويبع في 5 أكتوبر 1985 فقتل منهم سبعة من بينهم أربعة أطفال كما قتل ضابط مصري وجرح أربعة.
في طفولته شهد سليمان آثار قصف القوات الجوية الإسرائيلية لمدرسة بحر البقر الإبتدائية المشتركة في 8 أبريل سنة 1970 باستخدام طائرات الفانتوم الأمريكية، والذي خلف 30 شهيدًا من الأطفال، حينها كان سليمان يبلغ التاسعة من عمره.
سلم سليمان خاطر نفسه بعد الحادث، وصدر قرار جمهوري بموجب قانون الطوارئ بتحويل الشاب إلى محاكمة عسكرية.
وصفته الصحف الموالية للنظام بالمجنون، فيما اعتبرته صحف المعارضة بطلاً وقادت حملة من أجل تحويله إلى محكمة الجنايات بدلاً من المحكمة العسكرية.
بعد محاكمة سليمان خاطر عسكرياً، صدر الحكم عليه في 28 ديسمبر 1985 بالأشغال الشاقة لمدة 25 عامًا، ووفي في 7 يناير 1986 في ظروف غامضة.
أيمن حسن: كمين عين نطفيم 1990
كمين عين نطفيم يُشير إلى الهجوم الذي وقع في 26 نوفمبر 1990، عندما عبر أحد أفراد الشرطة المصرية أو قوات حرس الحدود يدعى أيمن حسن إلى داخل الحدود الإسرائيلية وهاجم عدة سيارات على طول الطريق 12 السريع.
حسب رواية أيمن حسن، فقد نفذ هجومه رداً على إساءة جنود إسرائيليين للعلم المصري، وقيام الإسرائيليين بمذبحة المسجد الأقصى الأولى. أسفر الهجوم عن مقتل أربعة إسرائيليين وإصابة 27 إسرائيلياً آخرين.
بدأت محاكمة أيمن حسن منتصف ديسمبر 1990 وتم النطق بالحكم في 6 أبريل 1991 بالسجن النافذ لمدة 12 عامًا بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار.
الدوافع السياسية والأيديولوجية
تكشف هذه العمليات عن تيار عميق من الرفض الشعبي المصري للتطبيع مع إسرائيل، رغم مرور عقود على اتفاقية السلام بين البلدين.
يتواصل صدى العملية التي نفذها المُجند المصري “محمد صلاح” إثارة التفاعل في الشارع المصري والعربي، بين إشادات واحتفاء بشجاعته وبين رافض للطريقة التي تعاملت بها سلطات الانقلاب مع العملية النوعية.
من الواضح أن جنديا مصريا واحدا استطاع أن يثأر للجيوش العربية، ويحقق ما لم تستطع تحقيقه تلك الجيوش في 5 يونيو عام 1967.
وفقاً لما ذكرته تقارير إسرائيلية، فإن العلاقات التي يقيمها الاحتلال مع بعض الأنظمة العربية، لا تكاد تتجاوز حدود العلاقات الرسمية، في حين ينظر الشارع العربي بعداء شديد لإسرائيل. هذا التناقض بين الموقف الرسمي والشعبي يفسر جزئياً استمرار هذه العمليات رغم التطبيع الرسمي.
البعد النفسي والاجتماعي
تشير الحالات المدروسة إلى أن معظم منفذي هذه العمليات ينتمون إلى خلفيات اجتماعية متواضعة، مما يعكس تأثير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على تشكيل الوعي السياسي.
محمد صلاح نشأ في أسرة متواضعة وكان يعولها مع شقيقه الأكبر بعد وفاة والده. سليمان خاطر أيضاً ولد في قرية بسيطة وشهد في طفولته آثار القصف الإسرائيلي لمدرسة بحر البقر.
كما تكشف هذه الحالات عن تأثير الأحداث التاريخية المؤلمة على تشكيل الوعي السياسي للأجيال الجديدة.
مذبحة مدرسة بحر البقر التي شهدها سليمان خاطر في طفولته تركت أثراً عميقاً في شخصيته. بينما عملية محمد صلاح جاءت في سياق التطورات الإقليمية المتعلقة بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
التفاعل الشعبي المصري
يظهر التفاعل الشعبي المصري مع هذه العمليات انقساماً واضحاً بين الموقف الرسمي والشعبي. بينما تتعامل السلطات المصرية مع هذه الحوادث باعتبارها حوادث معزولة وتتعاون في التحقيقات.
يتفاعل الحس الشعبي مع هذه العمليات كونها أعمق من مجرد حادثة معزولة، بل تعبيراً عن مشاعر لم تنقطع يوماً من الكره والعداء الكائن في صفوف الجيش المصري ضد الاحتلال الإسرائيلي.
كتب الإعلامي أحمد منصور عبر حسابه الرسمي على تويتر: “ذكرى هزيمة 5 يونيو 1967 حينما هزمت إسرائيل الجيوش العربية كلها بقيادة عبد الناصر الذي كان يهدد بإلقائها في البحر، لكن جنديا مصريا واحدا اسمه محمد صلاح جاء بعد 56 عاما فحولها إلى نصر للشعوب العربية، وهزيمة نفسية ومعنوية ومادية لجيش إسرائيل”.
التغطية الإعلامية الدولية
تناولت وسائل الإعلام الدولية هذه الأحداث بطرق مختلفة. في حالة محمد صبري سليمان، نقلت شبكة فوكس نيوز عن مصادر رفيعة تفاصيل الحادث، مؤكدة أن المشتبه به كان يهتف “فلسطين حرة” أثناء الهجوم.
صرح مارك ويليامز، المسؤول عن مكتب التحقيقات الفيدرالي، أن الهجوم الذي وقع يوم الأحد في بولدر كان مدفوعاً بدوافع “معادية للسامية”.
وصفت السلطات الأمريكية حادث كولورادو بأنه “عمل إرهابي بدوافع أيديولوجية”، بينما هاجم ستيفن ميلر، نائب رئيس موظفي البيت الأبيض السابق، سياسات الهجرة في عهد بايدن، واصفاً إياها بـ”الانتحارية” بسبب منح الإقامة المؤقتة لمهاجرين غير شرعيين مثل سليمان.
التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي
شهدت وسائل التواصل الاجتماعي تفاعلاً واسعاً مع هذه الأحداث.
في حالة محمد صبري سليمان، انتشر مقطع فيديو له على وسائل التواصل الاجتماعي يُسمع فيه وهو يردد “أوقفوا الصهاينة” عدة مرات، ويصرخ أيضاً “فلسطين حرة”. كما تداول المستخدمون صوراً وفيديوهات تتعلق بهجوم كولورادو، حيث تابعه الرأي العام ووسائل الإعلام بدقة.
بينما في حالة محمد صلاح، أظهرت وسائل التواصل الاجتماعي تفاعلاً إيجابياً واسعاً من الجمهور العربي، حيث اعتُبر رمزاً للمقاومة ضد التطبيع.
لاعبو نادي بيراميدز رفعوا علم فلسطين خلال احتفالهم بالفوز بدوري أبطال أفريقيا، في إشارة رمزية للتضامن مع القضية الفلسطينية.
تأثير التطورات الفلسطينية
ترتبط هذه العمليات ارتباطاً وثيقاً بالتطورات في القضية الفلسطينية. حادثة الإسكندرية وقعت في 8 أكتوبر 2023، أي بعد يوم واحد من عملية طوفان الأقصى. هذا التوقيت ليس مصادفة، بل يعكس تأثير الأحداث الفلسطينية على الوعي الشعبي المصري.
مجموعة “اركض من أجل حياتهم” التي استهدفها محمد صبري سليمان تنظم فعاليات أسبوعية تطالب بالإفراج عن الرهائن الإسرائيليين المحتجزين لدى حركة حماس.
هذا يوضح أن العمليات لا تستهدف إسرائيليين بشكل عشوائي، بل تستهدف رموزاً سياسية محددة مرتبطة بالصراع.
الأبعاد الجيوسياسية
تكشف هذه العمليات عن تحديات جيوسياسية أوسع تواجه عملية التطبيع في المنطقة. اختيار محمد صلاح لمعبر العوجة، الذي تم إنشاؤه كجزء من اتفاقية كامب ديفيد، يحمل دلالة رمزية قوية. كما أن وقوع عملية في الولايات المتحدة على يد مصري يطرح تساؤلات حول تأثير السياسات الأمريكية في المنطقة على المشاعر الشعبية العربية.
طالب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإجراء تحقيق مشترك وشامل مع مصر بشأن حادث محمد صلاح، مما يعكس القلق الإسرائيلي من تنامي هذه الظاهرة.
من جانبها، تحرص السلطات المصرية على التعامل مع هذه الحوادث بحذر، محاولة التوازن بين التزاماتها الدولية والضغوط الشعبية الداخلية.
نمط العمليات وخصائصها المشتركة
تُظهر هذه العمليات نمطاً متكرراً يتضمن عدة خصائص مشتركة. أولاً، معظم المنفذين ينتمون إلى المؤسسة الأمنية أو العسكرية المصرية، مما يعكس انتشار المشاعر المعادية للتطبيع حتى داخل الأجهزة الرسمية.
ثانياً، هذه العمليات تحمل طابعاً فردياً وليس تنظيمياً، مما يجعل من الصعب التنبؤ بها أو منعها. ثالثاً، تتزايد هذه العمليات في أوقات التصعيد في القضية الفلسطينية، مما يؤكد ارتباطها بالمشاعر الشعبية تجاه هذه القضية.
رابعاً، تحمل هذه العمليات رسائل سياسية واضحة تتجاوز مجرد العنف العشوائي. اختيار المواقع والأهداف يحمل دلالات رمزية مهمة، كما في حالة محمد صلاح الذي اختار معبر العوجة، أو محمد صبري سليمان الذي استهدف مسيرة مؤيدة لإسرائيل تحديداً.
التحديات والإشكاليات
تطرح هذه الظاهرة تحديات معقدة على عدة مستويات. على المستوى الأمني، تمثل هذه العمليات الفردية تحدياً كبيراً للأجهزة الأمنية، لأنها لا تتبع نمطاً تنظيمياً يمكن رصده ومتابعته.
على المستوى السياسي، تضع هذه العمليات الحكومة المصرية في موقف حرج بين التزاماتها الدولية والمشاعر الشعبية الداخلية.
على المستوى الاجتماعي، تعكس هذه العمليات فجوة عميقة بين السياسات الرسمية والمزاج الشعبي، مما قد يؤدي إلى تعقيدات اجتماعية وسياسية أوسع. كما تطرح تساؤلات حول فعالية السياسات التعليمية والإعلامية في تشكيل الوعي الشعبي.
الخاتمة والتوقعات المستقبلية
تشكل العمليات الفردية المصرية ضد الأهداف الإسرائيلية ظاهرة معقدة تعكس تقاطع عوامل سياسية واجتماعية ونفسية متعددة.
من محمد صلاح في معبر العوجة إلى محمد صبري سليمان في كولورادو، تُظهر هذه العمليات استمرارية في الرفض الشعبي للتطبيع مع إسرائيل، رغم مرور عقود على اتفاقية السلام. هذه الظاهرة لا تقتصر على مصر فحسب، بل تعكس مزاجاً شعبياً عربياً أوسع يرفض التطبيع ويتضامن مع القضية الفلسطينية.
من المتوقع أن تستمر هذه الظاهرة في المستقبل القريب، خاصة في ظل استمرار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وتصاعد التوترات في المنطقة.
الطبيعة الفردية لهذه العمليات تجعل من الصعب التنبؤ بها أو منعها بالكامل، مما يضع تحديات أمنية وسياسية مستمرة أمام الحكومات في المنطقة.
تتطلب معالجة هذه الظاهرة نهجاً شاملاً يتجاوز الحلول الأمنية التقليدية ليشمل معالجة الأسباب الجذرية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
كما تتطلب حواراً صريحاً حول التوقعات الشعبية والسياسات الرسمية، وإيجاد سبل للتعبير السلمي عن المشاعر السياسية دون اللجوء إلى العنف.
في النهاية، تشكل هذه الظاهرة مؤشراً مهماً على طبيعة العلاقة بين الشعوب والحكومات في المنطقة العربية، وتطرح تساؤلات جوهرية حول مستقبل التطبيع والاستقرار الإقليمي.
