في تطور قانوني لافت أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والحقوقية، أقدمت محكمة القضاء الإداري في مصر على قبول دعوى قضائية ضد الرئيس السوري أحمد الشرع، المعروف سابقاً بأبي محمد الجولاني، بتهم تتعلق بارتكاب جرائم إبادة جماعية وانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.
تأتي هذه الخطوة في توقيت حساس يتزامن مع تولي الشرع قيادة المرحلة الانتقالية في سوريا وتصاعد التوترات الإقليمية، مما يثير تساؤلات جوهرية حول الدوافع الحقيقية وراء هذا التحرك القضائي، وما إذا كان يمثل سعياً حقيقياً لتحقيق العدالة أم توظيفاً سياسياً للقضاء في إطار المعارك الإقليمية الجارية.
التطورات القانونية والخلفية الزمنية للدعوى
عقدت محكمة القضاء الإداري في الإسكندرية جلستها الأولى يوم السبت الموافق 31 مايو 2025، للنظر في الدعوى القضائية رقم 53905 لسنة 79 ق، والتي قدمها المحامي المصري محمد أبو زيد المتخصص في قضايا النقض والدستورية العليا.
تركز الاتهامات الموجهة ضد الشرع على ارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية بحق مكونات من الشعب السوري، وتحديداً أبناء الطائفة العلوية والموحدين الدروز.
يستند المحامي في دعواه إلى وثائق وشهادات ميدانية ومقاطع مصورة توثق الانتهاكات المزعومة، والتي تشمل عمليات قتل واسعة النطاق وتهجير قسري وتصفية على أساس طائفي، خاصة في مناطق الساحل السوري ومحيطها.
وفقاً للتفاصيل المتاحة، فقد ورد في أحد مقتبسات ملف الدعوى عبارة مثيرة للجدل تقول: “ما حدث في مناطق العلويين لم يفعله هولاكو في بغداد، ولا تيمورلنك في دمشق… أعتقد أن عرش الله قد اهتز من هول هذه الجرائم”.
كما تطالب الدعوى الحكومة المصرية باتخاذ إجراءات قانونية ضد الشرع والتحرك على المستوى الدولي، في محاولة لوضع رموز الصراع السوري تحت المساءلة الدولية.
تشير التقارير إلى أن المحكمة المصرية طلبت من القضاء العراقي تقديم صورة رسمية من الجناية المرفوعة ضد الشرع وصورة من الحكم الغيابي الصادر بحقه لاستكمال محاكمته في مصر.
التحليل القانوني والاختصاص القضائي
من الناحية القانونية، تثير هذه الدعوى إشكاليات جوهرية تتعلق بالاختصاص القضائي وحدود السلطة القضائية المصرية.
تنص المادة العاشرة من قانون مجلس الدولة المصري على اختصاص محكمة القضاء الإداري بنظر المنازعات الإدارية التي تنشأ بين الأفراد والهيئات العامة، أو بين الهيئات العامة بعضها البعض.
ووفقاً لتوزيع الاختصاصات الحديث، تختص الدائرة الأولى لمحكمة القضاء الإداري بنظر المنازعات المتعلقة بالحقوق والحريات العامة وانتخابات مجلس النواب والمجالس الشعبية المحلية.
غير أن هذا الاختصاص المحلي يصطدم بمبدأ أساسي في القانون الدولي وهو حصانة رؤساء الدول الأجانب.
يؤكد الخبير القانوني علي التميمي أن “حصانة رؤساء الدول مطلقة تجاه القوانين الجنائية للدول الأخرى سواء كانت هذه القضايا المطلوبين فيها عن سلوك شخصي أو رسمي”، وأن هذا المبدأ استقر عليه قضاء محكمة العدل الدولية عام 2001.
كما أن هذه الحصانة “ليست شخصية للرؤساء بل هي امتياز للدول التي يمثلونها”، وهو ما أكدته المادة 32 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية 1961 والمادة 42 من اتفاقية فيينا للبعثات الخاصة 1969.
يشير الدكتور عبد الله الأشعل، أستاذ القانون الدولي، إلى أن هناك عقبتين رئيسيتين أمام أي محاولة لمحاكمة رئيس دولة أجنبي: “أولهما أن السودان ليس طرفاً في ميثاق روما المنشئ للمحكمة الجنائية والثاني حصانة رئيس الجمهورية المستقرة في العرف والقانون الدوليين”.
هذا المبدأ ينطبق بالمثل على الحالة السورية، حيث أن سوريا ليست دولة طرف في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، مما يجعل الولاية القضائية المصرية في هذه المسألة محل شك قانوني كبير.
الأبعاد السياسية والسياق الإقليمي
تأتي هذه الدعوى في سياق سياسي معقد يتسم بتوتر العلاقات بين مصر والإدارة الجديدة في سوريا. تبدي مصر قدراً كبيراً من الحذر في التعامل مع الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، ولا تتخطى العلاقات بعد مرحلة “جس النبض”.
يفسر مراقبون هذا الموقف بـ”توجس” الحكومة المصرية من سيطرة الإسلاميين على الحكم في دمشق، لا سيما بعد ظهور مصريين مطلوبين لدى نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي في المشهد بالقرب من قادة الإدارة الجديدة في سوريا.
يتجلى هذا الحذر المصري في القرار الذي أصدرته السلطات المصرية مؤخراً بـ”تقنين” دخول السوريين إلى أراضيها، وربط ذلك باستيفاء الشروط الأمنية.
كما اعتقلت قوات الأمن المصرية عدداً من السوريين المقيمين في مصر من الذين احتفلوا بإسقاط الأسد في أماكن عامة، ويواجه بعضهم خطر الترحيل.
وصف المساعد السابق لوزير الخارجية المصري حسين هريدي الشرع بأنه “زعيم إرهابي”، وقال إن “مصر لا تستطيع أن تتعامل معه، والتعامل معه يعني قبول مصر لمبدأ التعامل مع إرهابيين يفرضهم الغرب كرؤساء أو زعماء سياسيين حسب مصالحه”.
في هذا السياق، يطرح محللون سياسيون تساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء السماح بهذه الدعوى. يرى البعض أن هذه الخطوة تُعد توظيفاً سياسياً واضحاً للقضاء المصري، في إطار ما يبدو وكأنه محاولة لتوجيه رسائل دبلوماسية عبر أدوات قانونية لا تملك صلاحيات التنفيذ الفعلي.
ويرى آخرون أن الحكومة المصرية، من خلال السماح بمثل هذه الدعاوى، تسعى لامتصاص غضب داخلي أو توجيه الأنظار عن أزمات محلية.
دور القضاء في المشهد السياسي المصري
إن فهم هذه الدعوى يتطلب وضعها في سياق أوسع لدور القضاء في المشهد السياسي المصري.
يشير عماد الدين حسين، مدير تحرير صحيفة الشروق المصرية، إلى أن “القضاء في مصر هو من يغير المسار السياسي في الدولة منذ فترة ليست بالقليلة”، ويرجع ذلك إلى “غياب الحنكة السياسية من قبل القوى السياسية وفشلها في عقد الصفقات والمواءمات السياسية”.
كما يؤكد حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن “الخمول السياسي” بمعنى تراجع دور القوى السياسية المدعومة شعبياً والشخصيات الفاعلة هو ما يجعل من بيده الأمر يتصرف كما يشاء.
تشير الدراسات إلى أن النظام القضائي المصري يعاني من تأثيرات السلطة التنفيذية على استقلاليته. فوزير العدل يعين رؤساء المحاكم العليا من بين القضاة العاملين في محاكم الاستئناف، وبعضهم يتولون أيضاً مناصب في مجلس القضاء الأعلى الذي يتمتع بصلاحيات واسعة في تحديد رواتب القضاة وترقيتهم ونقلهم من منصب إلى آخر.
يمكن استخدام هذه الصلاحيات لمكافأة القضاة أو معاقبة أولئك الذين يُعتبرون غير موالين للنظام، وعلى وزير العدل أو رئيس الجمهورية الموافقة على جميع القضاة الذين يُعيَّنون في هذه المناصب.
التحديات والآثار المحتملة
رغم الضجيج الإعلامي الذي أثارته هذه الدعوى، فإن التحديات القانونية والعملية التي تواجهها كبيرة. من الناحية القانونية، لا تمتلك محكمة القضاء الإداري المصرية اختصاصاً حقيقياً في مسائل تتعلق بالسياسة الخارجية أو محاكمة رؤساء دول أجانب.
فالمحاكم الإدارية تختص بالفصل في إلغاء القرارات الإدارية النهائية الصادرة بالتعيين في الوظائف العامة أو الترقية أو بمنح العلاوات، والفصل في المنازعات الخاصة بالمرتبات والمعاشات والمكافآت، والفصل في المنازعات الخاصة بعقود الالتزام أو الأشغال العامة أو التوريد.
من ناحية أخرى، فإن القانون الدولي يؤكد على الحصانة المطلقة لرؤساء الدول أثناء وجودهم في المنصب. يشير الدكتور صلاح الدين عامر، الأمين العام للجمعية المصرية للقانون الدولي، إلى أن “هناك قاعدة عرفية مطلقة وثابتة في القانون الدولي وهي حصانة رؤساء الدول ليس ضد المحاكمة فحسب وإنما ضد توجيه الاتهامات إلا وفقاً للقوانين الوطنية”.
الاستثناء الوحيد على هذه القواعد هو “إذا كان الرئيس مطلوباً للمحكمة الجنائية الدولية وكانت الدولة المضيفة موقعة على اتفاقية روما 1998 الخاصة بهذه المحكمة”.
على المستوى العملي، فإن تنفيذ أي حكم قد يصدر عن هذه المحكمة يواجه عقبات لا يمكن تجاوزها. فحتى لو صدر حكم قضائي، فإن تنفيذه يتطلب تعاوناً دولياً وآليات تنفيذية لا تملكها المحاكم المصرية في هذا السياق.
كما أن الشرع لا يخضع للولاية القضائية المصرية، ولا توجد معاهدات تسليم مجرمين بين مصر وسوريا في الوضع الراهن.
ردود الفعل والمواقف المتباينة
لاقت هذه الدعوى ردود فعل متباينة من مختلف الأطراف. من جهة، اعتبرتها أطراف معارضة للنظام السوري خطوة رمزية مهمة لتوثيق الانتهاكات والضغط السياسي.
ومن جهة أخرى، اعتبر العديد من المراقبين الأمر محاولة دعائية لا أكثر، خصوصاً مع غياب أي دعم دولي أو تحرك حقوقي موازٍ من منظمات أممية.
يثير هذا التحرك القانوني في مصر تساؤلات حول توظيف القضاء في المعارك السياسية الخارجية، خاصة في ظل غياب إرادة تنفيذية أو صلاحية قضائية لملاحقة أحمد الشرع أو غيره من قادة الدول الأجانب.
تأتي هذه التطورات في ظل تصاعد الجدل الإقليمي والدولي حول مستقبل المساءلة عن الجرائم المرتكبة في سوريا، وسط مطالبات متزايدة بتفعيل أدوات العدالة الدولية أو الوطنية لمحاكمة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان.
غير أن هذه المطالبات تصطدم بواقع معقد من التحديات القانونية والسياسية والعملية التي تحول دون تحقيق العدالة الفعلية للضحايا.
الخلاصة والتوصيات
تمثل الدعوى المقامة أمام محكمة القضاء الإداري في مصر ضد الرئيس السوري أحمد الشرع حالة معقدة تتداخل فيها الاعتبارات القانونية والسياسية والإقليمية.
من الناحية القانونية الصرفة، تفتقر هذه الدعوى إلى الأساس القانوني السليم، نظراً لعدم اختصاص المحكمة المصرية ولحصانة رؤساء الدول المقررة في القانون الدولي.
من الناحية السياسية، تبدو هذه الخطوة وكأنها جزء من استراتيجية أوسع للتعبير عن الموقف المصري الرافض للإدارة الجديدة في سوريا وتوجيه رسائل سياسية عبر القنوات القضائية.
في نهاية المطاف، قد تكون هذه الدعوى أكثر أهمية كظاهرة سياسية منها كإجراء قضائي فعال. فهي تعكس التوترات الإقليمية الراهنة والصراع على النفوذ في المنطقة، كما تسلط الضوء على التحديات التي تواجه تحقيق العدالة الدولية في ظل غياب آليات فعالة للمساءلة عن جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان.
إن التعامل مع مثل هذه القضايا يتطلب نهجاً أكثر جدية وفعالية يركز على تعزيز آليات العدالة الدولية الحقيقية بدلاً من الاعتماد على مناورات قانونية لا تملك القوة التنفيذية اللازمة لتحقيق العدالة الفعلية للضحايا.










