بقلم / د.فولينو جوض
كل تجربة إنسانية مرتبطة بالنضال المسلح، تبرز أسئلة عميقة حول دوافع الصراع، وشرعيته، وسبل تحوله إلى نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل. تجربة جنوب السودان مع الحركات المسلحة ليست استثناءً، بل ربما تمثل نموذجًا مكثفًا لفشل الحركات المسلحة في التحوّل من حركات مقاومة إلى حركات بناء دولة. ولكن، لماذا تكررت صور الفشل رغم عظم التضحيات؟ وكيف تناسلت أوجاع السودان الأم في جسد الدولة الجديدة؟
أولاً: عبء الجغرافيا وحدود الهوية
لا يمكن عزل جنوب السودان عن جغرافيته الضاغطة؛ فهو بلد شاسع، متنوع الأعراق واللغات والثقافات، بلا بنية تحتية تقريبًا، تغلب عليه الطبيعة الريفية وضعف مؤسسات الدولة. في مثل هذا المناخ، يصبح الولاء للقبيلة أو المنطقة غالبًا أقوى من الولاء للوطن. وهذا ما جعل من كل حركة مسلحة صوتًا لمظلمة محلية أكثر من كونها مشروعًا وطنيًا شاملاً.
إن فشل الحركات المسلحة في بناء هوية وطنية موحدة، يعكس فشل السودان الأم نفسه في إدارة التعددية. لقد كان الخطاب السائد في الشمال يُكرّس التمايز، ويُخضِع الجنوب لسياسات مركزية قاهرة. وعندما انفصل الجنوب، لم يكن قد أعدّ هوية جامعة، بل وجد نفسه فجأة أمام سؤال: من نحن كدولة؟ ولم يجد الإجابة.
ثانياً: منطق السلاح وتآكل السياسة
الكثير من حركات جنوب السودان نشأت في بيئة لم تعرف سوى لغة البندقية. فالسياسة كانت دائماً آخر الحلول، بينما العنف هو اللغة الأولى والأخيرة. ولعل هذا ما يفسر لماذا تعثرت كل محاولات بناء عقد اجتماعي جديد بعد الاستقلال؛ إذ لم يكن هناك إرث من الحوار السياسي أو ثقافة الحلول الوسط.
بقيت العلاقة بين الحركات المسلحة كعلاقة منافسة صفرية: إما انتصار كامل أو هزيمة كاملة. وهكذا، نشأت دوامات من الصراعات الداخلية، وأصبح كل فصيل مسلح يعتبر نفسه الدولة، ويحتكر موارد منطقته، ويخشى من اندماجه في كيان وطني أكبر قد يُفقده نفوذه.
ثالثاً: إرث القيادة المأزومة
قادة الحركات المسلحة في جنوب السودان، رغم ما يتمتع به بعضهم من كاريزما أو تاريخ نضالي، إلا أن معظمهم وقعوا في فخ الشخصنة والسلطوية. لقد وجدوا أنفسهم فجأة أمام إغراءات السلطة والثروة، فمالوا إلى بناء شبكات ولاء شخصية، وتوزيع المناصب على المقربين، بدل العمل على بناء مؤسسات ديمقراطية قوية.
هذا النمط من القيادة ليس جديداً، بل هو امتداد لنمط الحكم في السودان الأم، حيث كان الزعيم أو العسكري هو الدولة، وتُختزل المؤسسات في شخصه. وعندما انتقلت هذه العدوى إلى الجنوب، تعمقت الأزمة لأن الدولة الجديدة كانت تفتقر إلى أي رصيد مؤسسي أو تقاليد حكم راسخة.
رابعاً: المجتمع المدني المفقود
لم يعرف جنوب السودان، بسبب عقود الحرب والتهجير والفقر، مجتمعاً مدنياً حيوياً قادراً على مراقبة السلطة أو مساءلتها. هذا الضعف ترك فراغاً ضخماً، سرعان ما ملأته الحركات المسلحة نفسها، فأصبحت هي المجتمع والدولة في آن واحد. في غياب الإعلام الحر، والنقابات، والجامعات الفاعلة، لم يكن هناك من يعبّر عن هموم الناس أو يضغط من أجل التغيير السلمي. فكان العنف هو الوسيلة الوحيدة للضغط والتعبير والاقتسام.
خامساً: السودان الأم – الجرح المفتوح
حتى بعد الانفصال، لم يغادر السودان الأم مخيلة وواقع جنوب السودان. فالعلاقات الاقتصادية، والتداخلات الأمنية، والحدود المشتعلة دوماً، واستمرار التدخلات المباشرة وغير المباشرة، كلها جعلت الجنوب يعيش في ظل الشمال، سواء أراد أم لم يرد. بل إن كثيراً من قادة الجنوب تلقوا دعمهم أو خبراتهم من الخرطوم أو من حلفائها، وعادوا ليعيدوا إنتاج نفس سياسات السلطة التي عانوا منها بالأمس.
إن مأساة الجنوب أنه لم يستطع أن يتحرر من إرث السودان الأم، لا في البنية السياسية، ولا في أدوات الحكم، ولا حتى في أنماط الفساد. كلما حاول بناء ذاته، وجد نفسه يعود إلى دائرة الصراع على السلطة، لأن التركة التي ورثها كانت مثقلة بالأزمات البنيوية.
سادساً: أثر الفشل على الحاضر والمستقبل
إن إخفاق الحركات المسلحة في التحول نحو بناء الدولة والمواطنة، جعل جنوب السودان يعيش اليوم في حالة “لا حرب ولا سلم”. ملايين من النازحين واللاجئين، اقتصاد منهار رغم الثروة النفطية، تفكك اجتماعي، وغياب الأمل لدى الأجيال الجديدة. وحتى محاولات المصالحة سرعان ما تتكسر أمام واقع المصالح الضيقة وتاريخ الدماء.
تأثير هذا الفشل لا يقتصر على الجنوب وحده؛ بل يمتد ليؤجج الأزمات في السودان الأم نفسه، ويهدد استقرار الإقليم، ويعيق أي مشروع للتكامل أو التنمية المشتركة في القرن الإفريقي.
سابعاً: أي أفق؟
في ظل هذا التشخيص المتشائم، يبقى الأمل في وعي جديد، لدى شباب الجنوب خصوصاً، بأن التغيير الحقيقي يبدأ من نقد الذات والتعلم من أخطاء الماضي. إنه أمل في بناء مؤسسات حقيقية، وتكريس قيم المواطنة، والقبول بالتنوع، وإعادة الاعتبار للسياسة كفن للحوار لا ساحة للقتل.
على السودان الأم أيضاً أن يتحمل مسؤوليته التاريخية والأخلاقية، فيفتح صفحة جديدة مع جيرانه في الجنوب، قائمة على التعاون والاحترام المتبادل، لا على التدخل والصراع.
خاتمة متأملة:
إن جراح جنوب السودان ليست جراحه وحده، بل هي جراح السودان الكبير، وجراح كل الأوطان التي لم تستطع أن تتصالح مع ذاتها وهويتها وتنوعها. فالفشل هنا ليس قدراً محتوماً، بل محطة للتفكير والنقد وإعادة البناء. لعل في هذا التأمل دعوة للجنوب، وللسودان الأم، ليبدآ معاً رحلة شفاء طويلة، قوامها الحقيقة والاعتراف والجرأة على التغيير.










