في مشهد غير مسبوق، تتسابق البنوك السعودية على إصدار أدوات الدين بوتيرة متسارعة، في محاولة لتعزيز قواعدها الرأسمالية ومواكبة متطلبات التمويل الضخمة لمشاريع رؤية 2030. أحدث حلقات هذا السباق تمثل في إعلان البنك الأهلي السعودي، أكبر بنوك المملكة من حيث الأصول، جمع 1.73 مليار ريال من إصدار صكوك إضافية من الفئة الأولى مقومة بالريال السعودي، ليصبح بذلك تاسع مصرف سعودي يلجأ لهذا الخيار منذ بداية 2025.
أرقام قياسية… وقلق متصاعد
تشير البيانات إلى أن إجمالي ما جمعته البنوك السعودية عبر أدوات الدين منذ مطلع العام الجاري تجاوز 25 مليار ريال، في قفزة كبيرة مقارنة بالسنوات السابقة. هذا التوسع اللافت جاء في ظل تجاوز نسبة القروض إلى الودائع لدى البنوك حاجز 100%، ما دفعها للبحث عن مصادر تمويل بديلة عبر الصكوك والسندات، خاصة مع تباطؤ نمو الودائع وارتفاع الطلب على التمويل نتيجة المشاريع الحكومية العملاقة.
ورغم أن البنوك تبرر هذا التوجه بالحاجة لتعزيز رأس المال والامتثال لمتطلبات بازل 3، إلا أن الأرقام تكشف عن تحديات متزايدة، أبرزها ارتفاع العجز في صافي الأصول الأجنبية للبنوك التجارية السعودية إلى نحو 90 مليار ريال بنهاية أبريل 2025، وهو رقم قياسي يعكس ضغوطاً متراكمة على القطاع المصرفي.
تُعد بازل 3 مجموعة من الإصلاحات والمعايير التنظيمية التي وضعتها لجنة بازل للرقابة المصرفية، بهدف تعزيز متانة القطاع المصرفي العالمي وتحسين قدرته على مواجهة الأزمات المالية. جاءت هذه المعايير استجابةً للأزمات المالية العالمية، خاصة أزمة 2007-2008، وتركز على ثلاثة محاور رئيسية: رأس المال، السيولة، والإفصاح.
أدوات الدين: بين دعم التنمية ومخاطر التوسع
من الناحية النظرية، تتيح أدوات الدين للبنوك السعودية توفير السيولة اللازمة لتمويل المشاريع الحكومية والخاصة، وتسريع وتيرة تنفيذ رؤية 2030. كما أن تنويع مصادر التمويل عبر الصكوك والسندات يعزز مرونة البنوك في مواجهة الأزمات المالية، ويجذب استثمارات أجنبية جديدة إلى السوق السعودي، خاصة مع الطروحات الدولية المقومة بالدولار.
لكن على الجانب الآخر، يحمل هذا التوسع المتسارع في أدوات الدين مخاطر كبيرة، أبرزها:
- ضغط على الأصول الأجنبية: تحويل حصيلة الإصدارات الدولارية إلى الريال السعودي لتمويل الأنشطة المحلية، دون زيادة مقابلة في الأصول الأجنبية، أدى إلى تعميق العجز في صافي الأصول الأجنبية للبنوك، ما يهدد استقرار القطاع المالي في حال استمرار هذا النهج.
- ارتفاع تكلفة التمويل: العوائد المرتفعة التي تقدمها البنوك لجذب المستثمرين (تصل إلى 6.5%) تعني زيادة تكلفة التمويل على المدى المتوسط والطويل، ما قد ينعكس على تكلفة القروض للعملاء ويضعف ربحية البنوك.
- مخاطر السيولة: الاعتماد المتزايد على أدوات الدين لتغطية الاحتياجات التمويلية قد يضع البنوك في مواجهة مخاطر سيولة حادة، خاصة إذا ارتفعت أسعار الفائدة العالمية أو تراجعت شهية المستثمرين.
- تعقيد إدارة المخاطر: مع تزايد المطلوبات الأجنبية وتراجع الأصول الأجنبية، تزداد صعوبة إدارة المخاطر المالية، ما قد يؤثر سلباً على التصنيفات الائتمانية للبنوك السعودية.
قراءة نقدية: هل نحن أمام مغامرة مالية؟
من الواضح أن البنوك السعودية وجدت نفسها أمام معادلة صعبة: من جهة، هناك ضغوط تمويلية هائلة نتيجة المشاريع الكبرى التي تتطلب سيولة ضخمة، ومن جهة أخرى، هناك تحديات هيكلية في نمو الودائع وتزايد الاعتماد على أدوات الدين. في هذا السياق، يبدو أن البنوك اختارت الحل الأسهل والأسرع، وهو إصدار الصكوك والسندات، دون الأخذ في الاعتبار المخاطر المتراكمة على المدى الطويل.
الأرقام تكشف أن العجز في صافي الأصول الأجنبية للبنوك السعودية بلغ مستويات غير مسبوقة، بينما تتسارع وتيرة الإصدارات الجديدة دون توقف. ومع استمرار هذا النهج، قد تجد البنوك نفسها في مواجهة أزمة سيولة أو ارتفاع حاد في تكلفة التمويل، خاصة إذا تغيرت الظروف العالمية أو شهدت الأسواق المالية تقلبات مفاجئة.
يقول خالد الزايدي، مستشار مالي:
على المصارف أن تتوخى الحيطة والحذر في التعامل مع إصدار الصكوك والسندات بهذا الكم الكبير، فالإفراط في الاعتماد على أدوات الدين قد يتحول إلى عبء ثقيل يهدد استقرار القطاع المصرفي بأكمله.
توصيات وتحذيرات
في ضوء هذه التطورات، يرى خبراء الاقتصاد أن على البنوك السعودية والجهات الرقابية إعادة تقييم سياسات التمويل وإدارة المخاطر، مع التركيز على:
- تشجيع نمو الودائع: من خلال تطوير منتجات ادخارية مبتكرة وزيادة ثقة العملاء في القطاع المصرفي.
- تنويع مصادر التمويل: وعدم الاعتماد المفرط على أدوات الدين، خاصة المقومة بالعملات الأجنبية.
- تعزيز الرقابة والإفصاح: لضمان الشفافية في استخدام حصيلة الإصدارات وإدارة المخاطر المرتبطة بها.
- مراقبة تكلفة التمويل: والعمل على إبقاء العوائد ضمن مستويات معقولة لتفادي ضغوط مستقبلية على البنوك والعملاء.
خلاصة
في النهاية، يمثل التوسع في إصدار أدوات الدين ظاهرة لافتة في القطاع المصرفي السعودي، تعكس ديناميكية الاقتصاد وحجم التحديات التمويلية. لكن استمرار هذا التوجه دون ضوابط واضحة قد يحول الطفرة الحالية إلى أزمة مستقبلية تهدد استقرار الاقتصاد السعودي، ما يتطلب سياسات أكثر تحفظاً ورقابة أشد لضمان تحقيق التوازن بين دعم التنمية والحفاظ على سلامة القطاع المالي.











