في المجرى الواسع العميق للإستراتيجية الأمريكية في الإقليم ، لا ينبغي بناء جزر فكرية مستحدثة استنادا إلى تصريحات مرسلة لبعض المسؤولين الأمريكيين ، ليس لأن اندفاع التيار في هذا المجرى سوف يجرفها سريعا وبعيدا ، ولكن لأن ذلك لن يعين على تقدير موقف صحيح.
إن الأمر يُشبه تماما وضع الموقف البريطاني كاملا من عمليات الإبادة والتجويع في غزة في سلة تصريحات وزير الخارجية البريطاني ، التي تبدي تعاطفا دافئا مع المدنيين الفلسطينيين ، بدلا من وضعه في سلة طائرات الاستطلاع البريطانية التي لا تغادر سماء غزة ، وتضع نتائج أعمالها في عدسة الأسلحة الإسرائيلية .
لقد حاول أكثر من كاتب كبير أن يبني جزيرة فكرية مستحدثة في هذا المجرى ، على أساس أن هناك تحولا في الإستراتيجية الأمريكية ، لقد جاءت المحاولة الأولى استنادا إلى تصريحات لـ “فانس” نائب الرئيس الأمريكي ، وأخرى لـ ” توماس باراك ” المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا ، وآخرين ، أما هذا التحول في الإستراتيجية الذي يعني أن هناك نسخة جديدة من الهيمنة ، فقد تم توصيفه على أساس أن الجيوش والطائرات المسيرة والبوارج ، لم تعد الوسيلة الشاخصة التي تدير المسرح الآن ، وإنما مراكز الأبحاث مثل ” راند ” وورش العمل ، وأن هناك بالتالي ما يُشبه التراجع السياسي .
أما المحاولة الثانية فقد جاءت تشخيصا مبهما مستندا إلى توصيف الخيار العسكري الأمريكي بالعجز ، وأن لعنة الديموغرافيا لا حل إسرائيليا لها ، والتي على أساسها تم تكريس الدور القيادي السعودي بدل التركي – حسب الكاتب طبعا – وأن التوجه القادم هو إسقاط نتنياهو وأردوغان ، وانتهاء زمن التدخل الغربي ، وانبثاق الحلول من داخل المنطقة .
إنني أحسب في هذا السياق أنه من الضروري تكثيف مجموعة من الحقائق الأساسية ، لا ينبغي تجاوزها أو القفز من فوقها .
أولا : بالنسبة للأشخاص الأساسيين من أركان الإدارة الأمريكية ، فإن العقل الأول بل والأوحد الذي يعكس بالمرآة صورة لذبذبات عقل ترمب ، وهو بالتالي حامل الحقيقة الوحيد ، هو ( ويتكوف) المكلف وحده بالتفاوض على كافة الجبهات ، بما في ذلك روسيا وإيران ، ولذلك فإن الباقين جميعا بمن فيهم ( ماركو ريبيو ) أو ( توماس باراك ) أو ( موسى بولس ) وغيرهم ، هم في الأغلب الأعم حملة رسائل أكثر منهم حملة حقائق أو مواقف ، وهي رسائل تخضع لعنصر الوقت أي للتكتيك لا الإستراتيجية ، أما ( فانس ) نائب الرئيس فهو ينفرد في خطاباته بمنحى خاص ، يمثل جانبا من قناعاته الشخصية التي لا تتلامس بالضرورة مع قناعات ( ترمب ) لكن ذلك لا يعني أن ( ويتكوف ) هو عقل ( ترمب ) وإنما يعني أن ( ترمب ) هو عقل ( ويتكوف ) .
ولك أن تلاحظ أن ورقة المفاوضات الأخيرة مع حماس ، والتي ناولها ( ويتكوف ) إلى ( بحباح ) تناولها ( ويتكوف ) نفسه من الموساد ، وأن تلاحظ – أيضا – أن التصريح الأكثر إضاءة لعمق الموقف الأمريكي من مصر صدر عن ( ويتكوف ) وكان من بين كلماته : ” إن مصر تمثل نقطة اشتعال ، ولا يمكن أن تستمر على هذا النحو ” .
ثانيا : إن تركيز ترمب على دور ( ويتكوف ) هو جزء من نزعة عامة لديه لتكثيف الأدوات التي يستخدمها ، ولذلك فإن الحديث عن إدارة المسرح عبر مراكز الأبحاث ليس صحيحا ، فقد أصبح حضورها شاحبا أكثر من أي وقت مضى ، وقد امتدت نزعة التكثيف في الأدوات ، والتي أراد ( ترمب ) أن يُحكّم قبضته من خلالها على صُنع القرارات ذات الطبيعة الإستراتيجية إلى مجلس الأمن القومي الأمريكي ذاته ، بعد أن أصدر بشأنه قرارا يُمثّل قُنبلة أدت إلى طرد 250 موظفا وباحثا من بين هيئته ، التي لا تضم سوى 300 شخص ، أي أنه خفض من قوته بنسبة تتجاوز 80% ، مما يعني تهميشه والحد من دوره ، وهو أمر طال ( ماركو ريبيو ) وزير الخارجية ، ولهذا كان حديثه أمام الكونجرس عن سوريا وعن سقوط حكومة (الشرع) خلال أسابيع مجرد رسالة فارغة ، فالجانب الأكبر من صلاحياته أصبحت في يد البنتاجون والمخابرات ، ولذلك فإن دراسة وتقييم الهزيمة الأمريكية المُرّة أمام الجيش اليمني ، نُقلت بكل مفرداتها وموادها لتحليلها واستخلاص نتائجها إلى المجمع الصناعي العسكري لا سواه .
ثالثا : إن كل ما يجري بكل عناصره وبكل أدواته وأشكاله وصوره ، ليس إلا جسورا جانبية للوصول إلى هدف واحد ، هو استكمال الحرب ، كل الزيارات وكل المناورات وكل التصريحات وكل المفاوضات والحوارات ، وكل أشكال الضغوط الاقتصادية ، وكل صور الإكراه السياسي والإعلامي ، كل الابتزاز المالي وإعادة ترتيب أوضاع القوى ، كل شئ دون استثناء ليس هدفه الوصول إلى حل ، وليس من أجل هدنة أو حتى تهدئة ، وإنما من أجل استكمال الحرب ، لأن الذين سيجلسون على مائدة هذا الوضع وهذه المرحلة – على حد تعبير دقيق لنيويورك تايمز – لن يكونوا غير صنفين ، إما أن يكونوا ضيوفا حول المائدة ، أو يكونوا طعاما فوقها ، أو على وجه أدق إما أن يكونوا عبيدا تم كسر إرادتهم تماما ، أو يكونوا مادة للمقاومة وبالتالي للحرب .
رابعا : إن دول الخليج محل زيارة ( ترمب ) قد انتقلت من حالة الصعود إلى مستوى الدولة القومية ، إلى حالة الهبوط إلى مستوى الدولة القبيلة أو القبيلة الدولة ، في ضوء تراتيبية قديمة للمصالح الخاصة والعامة ، فمصلحة رأس القبيلة فوق مصلحة القبيلة ، ومصلحة القبيلة فوق مصلحة الدولة والأمن القومي معا ، فقد أصبح طلب الحماية خاصا أكثر منه عاما ، وفرديا أكثر منه قبليا ، وقبليا أكثر منه وطنيا ، ولذلك فإن طلب التعايش بين مصر وبين هذه الدول في أوضاعها الراهنة ، وتوجهها القائم ، هو طلب مستحيل ، ليس فقط لأنها تبدو في سلوكها تجاه مصر أكثر عدوانية وغطرسة وتبجحا ، وكأنها وهي المهزومة موضوعيا قد حققت انتصارا تاريخيا على الأمة ، وعلى مصر ، بموجبه ألا تخضع لها فحسب وإنما عليها بموجب ذلك أن تعيد تعريف نفسها وشعبها وجيشها وتاريخها ودورها ومكانتها ، وأن تنحني في ثوب من العبودية تحت أقدام واهنة كخيوط العنكبوت حد أنها لا تستطيع أن ترفع أجسام أصحابها .
لقد حاول السعوديون انتزاع مركز القوة الإقليمي من مصر ، بعد هزيمة 1967 التي حرضوا عليها ،ولكنهم انتهوا إلى أبواق من نحاس ، وهم يسعون الآن إلى دفع مصر إلى حفرة لا قرار لها ، فهم يلعبون دورا مباشرا في عملية تهجير الفلسطينيين ، وفي اجتثاث المقاومة في غزة ، وجنودهم هناك بالسلاح الأمريكي ضمن الشركتين الأمريكيتين ، وهم منخرطون تماما في أجندة المخابرات البريطانية والتركية في سوريا ، وفي أجندة المخابرات الإسرائيلية في لبنان ، بل هم الأكثر تحفيزا لإسرائيل على مواصلة عمليات القصف في جنوب لبنان ، وفي أجندة المخابرات العسكرية الأمريكية في اليمن ، وقد قدموا للأمريكيين قبل هزيمتهم إحداثيات بعدد 12 هدفا لقصفها في اليمن ، وأكدوا أن قصفها سيمثل بعثرة للقوة اليمنية ، ثم جاءت نتائج الضربات دخانا في الهواء ، شأن المعلومات التي قدموها قبل عدة شهور لاختراق الحُديدة ، والتي انتهت بقتل 70 من القوات الخاصة الأمريكية والإسرائيلية .
خامسا : لقد شكّل الأمريكيون حلفا عسكريا جديدا في الإقليم ، يضم الولايات المتحدة وإسرائيل وبريطانيا وتركيا والسعودية وقطر والإمارات ، وهو صورة مستحدثة من حلف قديم هو حلف بغداد الذي لم يقدر له أن يبقى على قيد الحياة أكثر من ثلاثة أعوام ، وسواء أطلقنا عليه حلف أنقرة أو حلف تل أبيب أو حلف الرياض ، فإن المنخرطين فيه على مستوى الإقليم يمثلون مستويين في بنيته ، مستوى أعلى يتشكل من تركيا وإسرائيل ، ومستوى أدنى يتشكل من دول الخليج الثلاث ، أما المستوى الأدنى فهو معني بالحماية والبقاء على مقاعد السلطة ، كما هو معني بحل عقدتين تاريخيتين ، عقدة قيادة مصر التاريخية الحضارية التي ينبغي وأدها ، وعقدة أن يرى ظله الباهت فوق خرائط الإقليم متساويا مع ظل إسرائيل وتركيا وربما الولايات المتحدة وهو أمر يتعلق بسيكولوجية التابع الذي يرى في انعكاس ظل المتبوع عليه شراكة في القوة والبأس والنفوذ.
لقد انتهت دراسة أجرتها جامعة هارفارد وفلوريدا في عام 2014 إلى أن تثبيت التأثير والحضور الأمريكي في الإقليم يتطلب قيام اتحاد فيدرالي بين إسرائيل وتركيا لإدارة كافة الموارد الطبيعية في الشرق الأوسط ، أي اقتسامها تحت سقف أمريكي ، ولعل ملامح الصورة الراهنة في سوريا ليست بعيدة عن ذلك التوصيف القابل للتوسع والتعميم .
سادسا : هل هناك متغيرات في الإستراتيجية الأمريكية ؟ نعم ، ولكنها لا تمس الجوهر :
- إن هناك متغيرا بالغ الأهمية والخطورة في سلطة اتخاذ القرارات ذات الطابع الإستراتيجي في الولايات المتحدة ، فهناك انقلاب كامل على منهجية ثابتة لاتخاذ مثل هذه القرارات تاريخيا ، فضلا عن تكثيف الأدوات العسكرية والسياسية في شخص أو بضعة أشخاص ، يديرهم شخص واحد في النهاية مع تغييب المرجعيات ، وتهميش دور مجلس الأمن القومي إلى حدود تقترب من إلغائه .
لقد أصبحت سلطة اتخاذ القرارات ذات الطابع الإستراتيجي في يد رئيس لا يتورع عن إشعال الفوضى وسفك الدماء في شوارع الولايات المتحدة نفسها . - إن كافة النجاحات التكتيكية التي حققتها أمريكا وإسرائيل وحتى تركيا ، اعتمدت بالدرجة الأولى على أعمال المخابرات ، لا على قوة النيران ، ففي كل هذه النجاحات سواء في سوريا أو لبنان أو إيران ذاتها ، كانت أعمال المخابرات هي الفعل الأكثر تأثيرا والأقل تكلفة ، وعلى العكس من ذلك فقد تحققت الهزيمة الأمريكية في الحرب على اليمن رغم استخدام أقصى الحدود لقوة النيران ، بسبب عوامل متعددة من بينها أن اختراق هذه العمليات لليمن ظل عصيّا ، ولذلك أحسب أن أعمال المخابرات المضادة من شأنها أن تكون أكثر الأدوات استخداما في هذه المرحلة ، وهو أمر يخص الجبهات الداخلية بالدرجة الأولى ، وهو بدوره ما يفرض بناء توازنات سياسية واقتصادية واجتماعية وإعلامية مختلفة ، لكي لا تبقى الحدود مخفورة عسكريا وغير محصنة إستراتيجيا .
- لقد تحولت الإستراتيجية الأمريكية في الإقليم إلى مربعات متداخلة ولكنها منفصلة في الوقت ذاته قابلة لأن تنفتح على بعضها في الوقت المناسب على غرار التخطيط لفتح مربع سوريا على مربع لبنان ، وتوظيف الإرهابيين الأجانب في هذا الاتجاه ، وهو أمر ينبغي القياس عليه في مربعات أخرى ، أما أنماط الحروب داخل هذه المربعات فسوف تصبح أقرب إلى نمط المعركة بين الحروب تجنبا لخسائر المعارك الواسعة والممتدة .
- إن اللجوء إلى الخيار شمشون سيظل قائما ، وستستمر عملية إنضاجه ولكنه سيكون القنبلة الملوثة الأخير في مدافع الإمبريالية.
يتبع…..
