شهدت أرباح البنوك المصرية المدرجة في البورصة تباطؤًا ملحوظًا خلال الربع الأول من عام 2025، في أول مؤشر على انحسار الموجة الربحية التي رافقت خفض قيمة الجنيه المصري وتحرير سعر الصرف في مارس 2024. ووفقًا لمسح أجرته «الشرق» على بيانات 11 بنكًا مدرجًا، فقد نمت الأرباح المجمعة للبنوك بنسبة 12% فقط على أساس سنوي لتسجل 39.7 مليار جنيه، مقارنة بنسب نمو تجاوزت 40% في الفترات السابقة.
هذا التباطؤ لم يأتِ من فراغ، بل يعكس بوضوح حجم التحديات التي بدأت تظهر في أعقاب تعويم الجنيه المصري، وهو الإجراء الذي لجأت إليه الحكومة لمواجهة أزمة نقص العملة الصعبة، لكنه خلّف آثارًا اقتصادية عميقة على مختلف القطاعات، لا سيما على معيشة المواطن المصري.

لماذا تباطأت أرباح البنوك بعد تعويم الجنيه؟
يعود السبب الرئيسي وراء تباطؤ أرباح البنوك إلى انحسار الأثر الإيجابي المؤقت الذي خلفه تعويم الجنيه. فعندما تم تحرير سعر الصرف في مارس 2024، قفزت أرباح البنوك بشكل استثنائي نتيجة ارتفاع الفوائد، وزيادة عوائد الاستثمار في أدوات الدين، إلى جانب مكاسب إعادة تقييم الأصول الأجنبية. لكن مع مرور الوقت، بدأت هذه العوامل تفقد زخمها، وظهر تأثيرها الحقيقي على الأرض: اقتصاد هش، وتضخم مرتفع، وضعف في القدرة الشرائية.
كما أن التشديدات النقدية المتكررة التي اتخذها البنك المركزي لكبح التضخم، أدت إلى ارتفاع أسعار الفائدة، ما زاد من تكلفة الاقتراض وأثر سلبًا على وتيرة النمو الاقتصادي، وبالتالي قلل من قدرة القطاع الخاص والأفراد على الاستدانة، مما أثر بشكل غير مباشر على البنوك.

خفض الجنيه المصري.. بين الضرورة والأثر المدمر
لا شك أن قرار خفض الجنيه المصري كان ضرورة فرضتها الظروف، خاصة في ظل أزمة نقص الدولار، وتراجع إيرادات قناة السويس، وانخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة. لكن الثمن الذي دفعه الاقتصاد والمواطن كان باهظًا.
فمنذ تحرير سعر الصرف، فقد الجنيه أكثر من 60% من قيمته، وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم بشكل قياسي، تجاوز في بعض الشهور حاجز 35%. ونتج عن ذلك ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وتآكل الدخول، وزيادة معدلات الفقر، خصوصًا بين الطبقات المتوسطة والفقيرة.
وبينما استفادت البنوك مؤقتًا من هذا الوضع من خلال ارتفاع العوائد، فإن الوضع لم يكن مستدامًا. إذ أدى الانكماش في القوة الشرائية، وتراجع نشاط القطاع الخاص، وتباطؤ النمو إلى تقليص فرص التمويل والإقراض، وبالتالي بدأ تأثير الركود التضخمي في الظهور.
المواطن المصري.. الضحية الأولى لخفض الجنيه
في قلب هذه الدوامة الاقتصادية، يقف المواطن المصري في مواجهة مباشرة مع تداعيات خفض الجنيه. فارتفاع الأسعار طال كل شيء: الغذاء، الوقود، السكن، التعليم، وحتى الخدمات الطبية. ورغم الزيادات المتكررة في الحد الأدنى للأجور، إلا أنها لم تكن كافية لتعويض فقدان القوة الشرائية.
كما أن تراجع الاستثمارات وارتفاع تكلفة الإنتاج دفع بالعديد من الشركات لتقليص نشاطها أو تجميد التوظيف، ما أدى إلى زيادة البطالة بشكل غير رسمي، وارتفاع نسب العمل غير المستقر.
هل يشير تباطؤ أرباح البنوك إلى أزمة أعمق؟
يرى خبراء الاقتصاد أن تباطؤ أرباح البنوك ليس إلا قمة جبل الجليد، وأن الاقتصاد المصري يمر بمرحلة حساسة تتطلب إصلاحات جذرية وهيكلية. فالبنوك تعكس صحة النشاط الاقتصادي، وإذا بدأت أرباحها تتراجع رغم تحرير سعر الصرف، فهذا يدل على أن الاقتصاد الكلي يواجه تحديات حقيقية.
كما أن استمرار التضخم، وتذبذب سعر الصرف، وعدم استقرار بيئة الأعمال، سيزيد من الضغط على البنوك، ويقلل من قدرتها على تحقيق معدلات نمو مستدامة، بل وقد يدفع ببعضها لإعادة النظر في استراتيجيات التوسع والإقراض.
جرس إنذار
ما حدث منذ خفض قيمة الجنيه يجب أن يكون جرس إنذار لصناع القرار، فاستمرار الاعتماد على أدوات قصيرة المدى كتعويم العملة أو الاقتراض الخارجي، دون إصلاحات هيكلية حقيقية في التعليم، والصناعة، والزراعة، سيؤدي إلى تكرار الأزمات.
ويجب أن ترتكز الرؤية الاقتصادية الجديدة على:
تحفيز الإنتاج المحلي لتقليل الاعتماد على الواردات.
جذب استثمارات حقيقية وليست فقط أموال ساخنة.
إعادة توزيع الدعم بما يخدم الفئات الأكثر تضررًا.
تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة الموارد العامة.
في الختام
يشير تباطؤ أرباح البنوك المصرية إلى مرحلة جديدة من التحديات الاقتصادية التي بدأت تتبلور منذ خفض قيمة الجنيه. وما لم يتم اتخاذ إجراءات إصلاحية حقيقية وشاملة، فإن الاقتصاد المصري قد يواجه موجات أعمق من الركود والاضطراب. المواطن المصري، الذي تحمل العبء الأكبر من نتائج التعويم، يترقب بصيص أمل في سياسات تعيد التوازن، وتحقق العدالة الاجتماعية، والاستقرار الاقتصادي.











