في ظل الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعصف بلبنان منذ عام 2019، يقف القطاع المصرفي اللبناني في عين العاصفة، مثقلاً بإرث من السياسات المالية الخاطئة والفساد المستشري، وسط محاولات حكومية متواصلة لاستعادة الثقة وحماية حقوق المودعين.
رسائل الطمأنة الرسمية… وواقع الودائع
أكد وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني الدكتور عامر بساط أن “ودائع العملاء آمنة ولن يتم اقتطاع أي جزء منها”، في رسالة طمأنة للمودعين الذين ينتظرون منذ سنوات استرجاع أموالهم المحتجزة في المصارف.
إلا أن الواقع المصرفي يكشف أن استعادة هذه الأموال ستتم “مع مرور الوقت” وفي إطار إصلاح شامل للنظام المالي، بحسب تصريحات رسمية متكررة، وسط غياب خطة مالية شاملة وموثوقة حتى الآن.
حجم الأزمة بالأرقام
تشير تقديرات رسمية إلى أن قيمة أموال المودعين المجمدة في المصارف اللبنانية حتى مطلع 2025 تتراوح بين 86 و93 مليار دولار، موزعة على نحو 1.26 مليون حساب. وقد تم تسوية معظم الحسابات الصغيرة جزئياً، فيما بقيت الحسابات المتوسطة والكبيرة عالقة، مع فرض قيود صارمة على السحب والتحويل، بحيث لا يتجاوز سقف السحب الشهري 500 دولار في معظم الحالات.
قبل الأزمة، كانت الودائع المصرفية تتجاوز 170 مليار دولار، إلا أنها تراجعت بشكل حاد مع تفاقم الأزمة، وتقدر الفجوة المالية بين ما تدين به البنوك وأصولها المتاحة بنحو 80 مليار دولار، ما يجعل استعادة الودائع كاملة تحدياً كبيراً يعتمد على إصلاحات مالية وسياسية شاملة.
جذور الأزمة: الفساد والسياسات الخاطئة
تعود جذور الانهيار المصرفي إلى عقود من سوء الإدارة المالية والفساد، حيث تم استخدام ودائع الناس لتمويل عجز الدولة ومشاريع غير إنتاجية، مع الاستفادة من فوائد مرتفعة عرضها مصرف لبنان للمصارف. كما أدى نظام السرية المصرفية إلى تعقيد الكشف عن حركة الأموال وتسهيل التهرب الضريبي وإخفاء مصادر الإثراء غير المشروع، ما جعل لبنان بيئة خصبة للفساد المالي والمصرفي.
وقد أدى هذا التحالف بين النخبة السياسية والمصرفية إلى تهريب أموال ضخمة إلى الخارج قبل انفجار الأزمة، بينما بقي المواطنون محرومين من مدخراتهم، وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها.
الإصلاحات… بين الوعود والتنفيذ
استجابة للضغوط الدولية، أقر مجلس الوزراء اللبناني مؤخراً مشروع قانون لإعادة هيكلة المصارف ورفع السرية المصرفية، في خطوة أساسية للحصول على دعم مالي من صندوق النقد الدولي. وتؤكد الحكومة أن حماية حقوق المودعين هي أولوية، مع التركيز على صغار المودعين، إلا أن تنفيذ هذه الإصلاحات يتطلب إرادة سياسية قوية وضخ رأس مال جديد في النظام المصرفي.
ويؤكد حاكم مصرف لبنان الجديد أن الأولوية لسداد أموال صغار المودعين، داعياً البنوك إلى زيادة رؤوس أموالها أو الاندماج، وإلا ستواجه التصفية المنظمة مع حماية حقوق العملاء.
التحول إلى الاقتصاد النقدي
مع انهيار النظام المصرفي، انتقل لبنان إلى اقتصاد نقدي غير رسمي، حيث باتت التعاملات خارج النظام المصرفي هي السائدة، ما أدى إلى مزيد من الانكماش الاقتصادي وهروب الاستثمارات.
رغم رسائل الطمأنة الحكومية، يبقى مصير ودائع اللبنانيين معلقاً على قدرة السلطة التنفيذية على تنفيذ إصلاحات شاملة وجذرية، واستعادة الثقة بالنظام المصرفي. فالأزمة ليست مالية فقط، بل هي أيضاً أزمة ثقة وإدارة وشفافية، ولا يمكن تجاوزها دون محاسبة الفاسدين وإرساء قواعد الحوكمة الرشيدة.






