تواجه قافلة “الصمود” المغاربية، التي انطلقت مؤخرا من تونس باتجاه معبر رفح لكسر الحصار عن قطاع غزة، موقفا مصريا متضاربا، يتراوح بين صمت رسمي، وهجوم إعلامي حاد من شخصيات قريبة من دوائر الحكم في القاهرة، ما يعكس حساسية الموقف وتعقيدات إدارة الملف الفلسطيني عبر الحدود المصرية.
ويشير مراقبون إلى أن موقف القاهرة اليوم ليس جديدا، بل يأتي في سياق نهج متواصل حيال القوافل والمبادرات الشعبية المتجهة إلى غزة، حيث سبق أن تعاملت مصر بحذر بالغ مع قوافل مشابهة، خاصة تلك التي نظمتها جهات خارجية أو مدعومة من جماعات سياسية مثيرة للجدل.
قوافل سابقة.. ذاكرة مصرية لا تمحى
في ديسمبر 2009، تعاملت السلطات المصرية مع قافلة “شريان الحياة 3” التي قادها النائب البريطاني جورج جالاوي، وسط توتر سياسي وإعلامي كبير.
وأصرت القافلة على دخول الأراضي المصرية عبر ميناء نويبع، مخالفين التوجيهات المصرية الواضحة بضرورة استخدام ميناء العريش، ما تسبب في أزمة لوجستية كبيرة استدعت عودة القافلة من العقبة، ومرورها عبر سوريا إلى ميناء اللاذقية، ثم وصولها لاحقا إلى العريش.
وفي يناير 2010، عندما دخلت القافلة الأراضي المصرية، وقعت اشتباكات بين بعض المشاركين وقوات الأمن في ميناء العريش، عقب منع السلطات دخول عدد من المركبات رباعية الدفع “غير مصرح بها”، والتي لم تصنف ضمن المساعدات الإنسانية.
وقد شهدت تلك الأحداث أعمال شغب غير مسبوقة، شملت تحطيم البوابات، إشعال النيران، والاعتداء على منشآت الميناء، ما أسفر عن إصابة أكثر من 17 شرطيا مصريا، بينهم رتب عليا.
هذه الحادثة، التي وصفت لاحقا بأنها محاولة “لجر مصر إلى مواجهة أمنية مباشرة”، تركت أثرا عميقا في العقل السياسي والأمني المصري.
وكان القرار الرسمي في ذلك الوقت عدم التصعيد عسكريا، حفاظا على استقرار الجبهة الشرقية، وتجنبا لأي صدام قد يفسر على أنه مواجهة مصرية ـ فلسطينية، وهو ما كانت تسعى إليه بعض الأطراف لإحراج القاهرة.
التجربة المريرة… و”حسابات الدولة” اليوم
وفي 6 يناير 2010، وفي ظل أجواء التوتر، تعرض برج مراقبة مصري في رفح لإطلاق نار من الجانب الفلسطيني، ما أدى إلى استشهاد الجندي أحمد شعبان، وإصابة تسعة جنود آخرين، في حادثة زادت من حساسية الموقف، ورسخت القناعة داخل الدوائر المصرية بضرورة الحذر الشديد في التعامل مع المعابر وقوافل الإغاثة التي قد تستغل لأهداف سياسية.
وتجدر الإشارة إلى أن السلطات المصرية، وعلى الرغم من الضغوط المتكررة، لم تغلق معبر رفح نهائيا، كما لم تفتحه كليا، بل أبقته في حالة تشغيل جزئي مشروط، مرتبط بملفات المصالحة الفلسطينية وتوحيد السلطة الشرعية، رافضة أي إجراء قد يفسر باعتراف ضمني بحكومة حماس في غزة.
التحديات الراهنة: قافلة “الصمود” وسط التوازنات الإقليمية
اليوم، وفي ظل استمرار الانقسام الفلسطيني، ترى القاهرة أن أي فتح غير منضبط لمعبر رفح أو تسهيلات لقوافل غير خاضعة للتنسيق الرسمي قد يستخدم لتكريس الانقسام بين غزة والضفة الغربية، ما يساهم في تنفيذ الخطة الإسرائيلية القديمة لتفكيك القضية الفلسطينية، عبر تحميل مصر مسؤولية غزة، والأردن مسؤولية الضفة، وهو ما رفضته القيادة المصرية مرارا، سواء في عهد السادات أو مبارك أو اليوم.
وتحذر مصادر مصرية من محاولات بعض الأطراف، لا سيما من داخل حركة حماس أو جماعات إسلامية دولية، لخلط الأوراق، وتحويل القضية الفلسطينية من صراع عربي ـ إسرائيلي إلى صراع فلسطيني ـ مصري، عبر استفزاز القاهرة سياسيا أو إعلاميا.
مصر تدعم فلسطين ولكن بشروط الدولة
تؤكد الجهات الرسمية في مصر مرارا أنها كانت ولا تزال أكبر داعم للقضية الفلسطينية، لكنها تصر في الوقت ذاته على أن سيادة الدولة وأمن الحدود غير قابلة للتفاوض أو الابتزاز، وأن أي تحرك باتجاه غزة يجب أن يتم عبر القنوات الرسمية والتنسيق الشرعي، وليس من خلال جماعات أو مبادرات فردية قد تخفي أهدافا تتجاوز العمل الإنساني.
وفي ضوء ذلك، تظل قافلة “الصمود” تواجه اختبارا دقيقا في علاقتها بالقاهرة: هل ستصطدم بجدار السيادة المصرية؟ أم تعبر بموافقة تنبع من احترام قواعد الدولة وحدودها؟










