تثير قرارات الحكومة المصرية الأخيرة بشأن تخصيص أصول الدولة، ومنها قرار تخصيص قطعة أرض مميزة لوزارة المالية في البحر الأحمر لاستخدامها كضمانة لإصدار صكوك سيادية، جدلاً واسعاً حول توجهات الدولة في إدارة أصولها العامة، وسط أزمة اقتصادية طاحنة وارتفاع غير مسبوق في الدين العام. وبينما تؤكد الحكومة أن التخصيص لا يعني البيع المباشر للأرض بل تطويرها واستخدامها كضمانة، إلا أن الوقائع السابقة وسياسات نقل ملكية الأصول الحكومية تثير الشكوك حول نوايا البيع الفعلي لاحقاً، خاصة في ظل غياب الشفافية وضعف الرقابة البرلمانية والقضائية على هذه العمليات.
من التخصيص إلى البيع: نمط متكرر في سياسات الحكومة
يأتي قرار تخصيص الأرض لوزارة المالية في إطار توجه أوسع لنقل ملكية الأصول الحكومية إلى جهات أو صناديق سيادية، تمهيداً لاستغلالها عبر البيع أو الشراكة مع القطاع الخاص أو مستثمرين أجانب، تحت ذريعة خفض المديونية وجلب العملة الأجنبية. فقد سبقت هذه الخطوة قرارات مشابهة، أبرزها نقل ملكية مقار 13 وزارة وصفت بأنها “غير مستغلة” إلى صندوق مصر السيادي، بعد إزالة صفة النفع العام عنها، في خطوة تمهيدية للتصرف فيها بالبيع أو الاستثمار.
هذا النمط يتكرر في عدة ملفات، مثل صفقة “رأس الحكمة” التي نقلت ملكية أرض ساحلية لصندوق سيادي إماراتي بقيمة 35 مليار دولار، وصفقات بيع حصص في شركات حكومية استراتيجية لصناديق خليجية، تحت ضغط الحاجة لسداد الديون وتوفير سيولة عاجلة.
التشريعات: تحصين عمليات البيع من الرقابة والطعن
أحد أخطر أوجه هذه السياسات هو التحصين القانوني الذي منحته الحكومة لنفسها منذ 2014، عبر قانون يمنع أي طرف غير ذي صفة من الطعن على عقود بيع الأصول الحكومية، مما يعني عملياً غياب الرقابة المجتمعية والقضائية على هذه الصفقات. كما أن صندوق مصر السيادي، الذي تؤول إليه معظم الأصول، لا يخضع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات ويديره مجلس معين من رئيس الجمهورية، ما يفتح الباب أمام شبهات تضارب المصالح وتصفية الأصول بعيداً عن أي شفافية حقيقية.
حجج الحكومة: تطوير الأصول وخفض المديونية
تدافع الحكومة عن هذه السياسات بأنها تهدف إلى تطوير الأصول وتحويلها لمشروعات إنتاجية وسياحية تدر عائداً مستداماً، وتساهم في خفض الدين العام وتحسين أوضاع المالية العامة، مع وعود بتوجيه العوائد إلى برامج الحماية الاجتماعية والتنمية البشرية. وتؤكد أن استخدام الأراضي كضمانة لإصدار الصكوك لا يعني نقل ملكيتها لأي جهة خارج الدولة، بل يدخل في إطار تنويع أدوات التمويل بعيداً عن الاقتراض التقليدي.
النقد والمخاوف: بيع الأصول تحت ضغط الأزمة
رغم هذه التبريرات، يرى خبراء ونواب أن تجارب الحكومة السابقة في إدارة وبيع الأصول تثير الشكوك حول نوايا البيع النهائي، خاصة مع تكرار نقل الملكية للوزارات أو الصناديق السيادية قبل البيع الفعلي، كما حدث مع مجمع التحرير ومقار الوزارات بوسط القاهرة. ويخشى كثيرون من أن تكون هذه الإجراءات مقدمة لتصفية ما تبقى من أصول الدولة الاستراتيجية، تحت ضغط الديون والعجز المالي، دون ضمانات حقيقية لتحقيق التنمية أو حماية حقوق الأجيال القادمة.
ويحذر اقتصاديون من أن بيع الأصول قد يوفر سيولة مؤقتة لكنه يفقد الدولة مصادر دخل دائمة ويقوض سيادتها الاقتصادية، خاصة مع غياب الشفافية واستبعاد المجتمع من الرقابة على هذه العمليات. كما أن الاعتماد المتزايد على بيع الأصول لسد عجز الموازنة وسداد الديون يعكس فشل السياسات الاقتصادية في تحقيق تنمية مستدامة أو إصلاح هيكلي حقيقي.
خلاصة نقدية
سياسة الحكومة المصرية في نقل ملكية الأصول وتخصيصها للوزارات أو الصناديق السيادية تمهيداً لبيعها أو استغلالها مالياً، لم تعد مجرد إجراء مالي عابر بل تحولت إلى نهج دائم لإدارة الأزمة الاقتصادية، يفتقر للشفافية والرقابة المجتمعية، ويهدد بفقدان الدولة لمقدراتها الاستراتيجية. إن استمرار هذه السياسات دون نقاش عام أو رقابة فعالة يضع مستقبل الأجيال القادمة وثروات البلاد على المحك، ويحول الأصول العامة إلى مجرد أوراق تفاوض لسداد الديون، بدلاً من أن تكون رافعة للتنمية والاستقلال الاقتصادي.











