تعود إلى الواجهة من جديد تنبؤات البروفيسور الراحل الدكتور نجم الدين أربكان، رئيس الوزراء التركي الأسبق ومؤسس حركة “الرؤية الوطنية”، بعد أن بدأت ملامحها تتحقق تدريجيًا على أرض الواقع، في ظل تصاعد التوترات في الشرق الأوسط، وتغير التحالفات الإقليمية والدولية.
من أبرز تنبؤاته: “سيحتلون العراق أولًا”، وقد حذر أربكان مبكرًا من تدخل خارجي واسع النطاق في العراق، يهدف إلى تقسيمه والسيطرة عليه، وهو ما تحقق مع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ثم تمدد النفوذ الإيراني والأمريكي والإسرائيلي في مناطق مختلفة من البلاد.
تبع ذلك تحذيره من أن هؤلاء “سيصبحون جيرانًا لتركيا عبر الحدود السورية”، في إشارة واضحة إلى إنشاء كيان كردي أو قاعدة دائمة لقوات مدعومة من الغرب على الشريط الحدودي السوري–التركي، وهو ما نراه اليوم من خلال النفوذ الأميركي في مناطق الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا.
وفي ثالث توقعاته المثيرة، قال أربكان: “سيتخلصون من حزب الله ويهاجمون إيران”، معتبرًا أن خريطة الشرق الأوسط الجديدة ستتضمن تفكيك قوى المقاومة تدريجيًا، وفتح جبهة إعلامية وعسكرية ضد طهران، وهو ما بدأ يظهر بوضوح في العقوبات المتواصلة، والحملات العسكرية الإسرائيلية في سوريا ولبنان، بل وعمليات التخريب التي تنسب إلى الموساد في العمق الإيراني.
أما هدف هذه التحركات جميعها، كما رآه أربكان، فهو تركيا نفسها. فقد أكد أن “الهدف النهائي هو تركيا”، التي ستُحاصر بخطط متدرجة تبدأ من العراق وسوريا، مرورًا بتضييق سياسي من الغرب، وصولًا إلى تفجيرات داخلية ومواجهات اقتصادية تهدف إلى تقويض نفوذها كقوة صاعدة في المنطقة.
تكتسب هذه التنبؤات أهمية إضافية اليوم في ظل التقارب التركي–العراقي–الإيراني مؤخرًا لمواجهة مشاريع الانفصال الكردية، وتصاعد التوترات بين تل أبيب وطهران، فضلاً عن النقاشات الجارية حول إعادة هيكلة النظام الإقليمي بعد الحرب على غزة وتآكل الدور الأميركي في بعض المناطق.
ويلاحظ محللون أن السياسات الأمنية التي تتبعها أنقرة في العراق وسوريا، بما فيها العمليات العسكرية ضد مواقع حزب العمال الكردستاني، تمثل ترجمة عملية لتحذيرات أربكان من خطر الكيانات المفروضة من الخارج.
ولد نجم الدين أربكان عام 1926 وتخرّج في ألمانيا كمهندس ميكانيكي بارز، وبرز كسياسي إسلامي محافظ أسس حزب النظام الوطني عام 1970، ثم حزب السلامة الوطني، وكان أول زعيم إسلامي يصل إلى رئاسة الحكومة في تركيا عام 1996.
أُجبر على الاستقالة بعد ضغوط الجيش في ما يعرف بـ”انقلاب ما بعد الحداثة”، واستمر في العمل السياسي حتى وفاته في 2011، مخلفًا إرثًا من التحليلات الجيوسياسية التي ما زالت تحظى بالاهتمام.
تبدو اليوم رؤيته أشبه بخارطة طريق للمرحلة المقبلة، خصوصًا أن كثيرًا مما قاله يحدث الآن: كيان كردي فعلي على الحدود، صراع متصاعد مع إيران، عزل حزب الله دوليًا، وتحركات متزايدة لتقويض الدور التركي إقليميًا. رؤية أربكان لم تكن مجرد تحليل سياسي عابر، بل تنبؤ استراتيجي لما نعيشه الآن.










