قبل أكثر من أربعة عقود، نسجت عواصم غربية كبرى، بقيادة واشنطن وباريس ولندن وبون، واحدة من أكثر العمليات الجيوسياسية تعقيدًا في الشرق الأوسط: تنصيب آية الله الخميني في طهران عام 1979.
الهدف حينها لم يكن نشر الديمقراطية أو دعم تطلعات شعبية، بل كان قطع الطريق أمام تمدد الاتحاد السوفيتي إلى الخليج عبر إيران، البلد الذي شكّل بوابة حيوية لموازين الطاقة العالمية.
إسرائيل تبدأ بتفكيك إيران الثورة: من نصب الخميني يُنهي اللعبة بيده
رغم تصوير الخميني كرمز إيراني ثوري من جذور شيعية أصيلة، فإن الحقائق التاريخية تكشف شيئاً آخر: اسمه الحقيقي كان “روح الله مصطفوي الهندي”، نسبة إلى أصول عائلته التي تعود إلى مدينة “لكهنؤ” في شمال الهند.
والده، السيد مصطفى الهندي، كان من علماء الدين الذين هاجروا إلى خُمين بإيران، ومنها جاء لقب “الخميني”.
هذه الخلفية، التي غالبًا ما يتم تجاهلها في الإعلام الرسمي الإيراني، لطالما أثارت جدلاً في الأوساط الفكرية الإيرانية، خصوصاً لدى المعارضين الذين رأوا فيها دليلاً إضافياً على أن صعود الخميني لم يكن نابعًا من نسيج الداخل الإيراني وحده، بل جاء عبر ترتيبات دولية شملت فرنسا والولايات المتحدة، وربما لعبت أصوله المهاجرة دورًا في تسويقه كـ”زعيم فوق القوميات”، يمكنه التأثير في محيط متنوع، من كابول إلى كربلاء.
انتهاء صلاحية “الجمهورية الإسلامية”: إسرائيل تُنفذ خطة تصفية إيران الخمينية
قبل أكثر من أربعة عقود، اجتمعت قوى كبرى في قمة سرية بجزيرة جوادلوب، كان من بين المشاركين الرئيس الأميركي جيمي كارتر، ورؤساء فرنسا وبريطانيا وألمانيا.
آنذاك، كانت إيران شاهنشاهية تترنّح على وقع الاحتجاجات، والاتحاد السوفيتي يتمدد باتجاه الخليج. في تلك اللحظة الحرجة، صعد اسم غير متوقع: آية الله روح الله الخميني، المعارض الديني المقيم في ضواحي باريس، والذي تقرر فجأة أن يكون هو “البديل”.
من جوادلوب إلى “الأسد الصاعد”: الغرب يتخلّص من إيران التي صنعها
وفق ما نشرته مجلة “فالور آكتويال” الفرنسية، جاء الخميني ليؤدي وظيفة محددة: قطع الطريق أمام تمدد النفوذ السوفيتي في الشرق الأوسط عبر إيران.
كانت القوى الغربية ترى فيه زعيمًا كاريزميًا يحمل غطاءً دينيًا كافيًا لضمان ولاء شعبي، ويشكّل حاجزًا “أيديولوجيًا” أمام الشيوعية. ساعدته فرنسا على بث خطاباته، وهيأت له قناة عودة آمنة إلى طهران، لتُولد جمهورية إسلامية، سرعان ما تطورت إلى نظام ثيوقراطي باسم “ولاية الفقيه”.
خطة ما بعد الخميني: هل بدأت إسرائيل بتفكيك النظام الإيراني لصالح الغرب؟
لكن تلك الأداة التي صنعتها السياسات الغربية في نهاية الحرب الباردة، تحولت بمرور الزمن إلى عبء خطير، خصوصاً بعد أن تمدد النظام الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وبات يتحدى واشنطن وتل أبيب وأوروبا والخليج، عبر مشروع تصدير الثورة ودعم الميليشيات الطائفية.
اليوم، وبعد 45 عاماً من تنصيب الخميني، بدأ الدور ينقلب رأسًا على عقب. إسرائيل، وبدعم ضمني من حلفائها الغربيين، تشن حربًا واسعة على البنية التحتية العسكرية والأمنية الإيرانية، في ما يعرف بـ“عملية الأسد الصاعد”، والتي طالت الحرس الثوري ومنشآت عسكرية في سوريا والعراق وحتى داخل العمق الإيراني.
45 عامًا من الوظيفة انتهت: تصفية إيران الخمينية بيد صانعيها
وفق محللين، فإن هذا التصعيد ليس مجرد رد فعل على دعم إيران لحماس وحزب الله، بل هو جزء من استراتيجية أوسع تستهدف تفكيك النظام الإيراني الحالي بعد انتهاء صلاحيته الوظيفية. فالدور الذي تأسس لمحاربة الشيوعية، أصبح اليوم يشكّل تهديدًا لذات القوى التي رعته، ما يستدعي – حسب الرؤية الغربية الجديدة – تصفيته بشكل مباشر.
لقد انقلب السحر على الساحر. والخميني الذي صُنِع في باريس، ربما يُدفن اليوم بصواريخ إسرائيلية، في مشهد يُكمل دائرة جيوسياسية دامت نصف قرن. وإذا صدقت التوقعات، فإن “نهاية الجمهورية الإسلامية” لن تكون ناتجة عن انتفاضة داخلية، بل بفعل تسوية دولية تقرر فيها واشنطن وتل أبيب وباريس، أن إيران الثورة لم تعد تصلح حتى كعدو مفيد.
من دعمها ضد السوفييت إلى قصفها بالصواريخ: الغرب يغلق ملف إيران الخميني
وفي قمة جوادلوب (يناير 1979)، اتفقت القوى الغربية على التخلي عن الشاه محمد رضا بهلوي، باعتباره شريكًا متهالكًا، وإفساح المجال أمام الخميني، الذي كان يُنظر إليه كزعيم كاريزمي قادر على ملء الفراغ، وقيادة نظام “ثوري” يحمل غلافًا دينيًا مضادًا للشيوعية.
وقد تم استقباله في فرنسا، ومن هناك نُقلت رسائله إلى الداخل الإيراني، مع تغطية إعلامية ضخمة وتصويره كمنقذ يحمل مشروع “جمهورية إسلامية” حديثة.
لكن ما حصل فعليًا هو صعود نظام ولاية الفقيه – وهو نظام ثيوقراطي منح الفقيه صلاحيات مطلقة – وبدأت إيران الخمينية تلعب أدوارًا تفجيرية في المنطقة، من دعم حزب الله، إلى تصدير الثورة، إلى رعاية ميليشيات مذهبية، وصولًا إلى صدامها المفتوح مع دول الخليج، والولايات المتحدة لاحقًا.
إيران لم تعد ورقةً مفيدة: تصعيد إسرائيلي يكشف قرارًا غربيًا بالتخلص منها
واليوم، وبعد 45 عامًا، يبدو أن هذا الدور الوظيفي لإيران الثورة قد استُهلك بالكامل. فالنظام الذي خُلق بالأمس كأداة جيوسياسية، تحول إلى مصدر إزعاج حتى لحلفائه المؤقتين، وخرج عن السيطرة الغربية بعد أن رسّخ لنفسه مشروعًا توسعيًا منفلتًا عبر العراق، وسوريا، واليمن، ولبنان.
وفي هذا السياق، يفسر كثير من المحللين ما يجري حاليًا من تصعيد إسرائيلي شامل ضد إيران – خاصة عبر “عملية الأسد الصاعد” – كجزء من خطة استراتيجية لتدمير البنية العسكرية والاستخباراتية التي بنتها طهران خلال عقود. فإسرائيل، بدعم أمريكي غير معلن، تستهدف اليوم منظومة الصواريخ، وخطوط الإمداد، وقواعد الحرس الثوري، وحتى مواقع القيادة.
اللافت أن هذا التحول الجذري لا يرتبط فقط بسياقات المواجهة مع “حماس” و”حزب الله”، بل يرتبط بمراجعة أوسع للدور الإيراني برمّته. لقد تحولت إيران الخمينية من ورقة ضغط غربية إلى عبء استراتيجي بات يُهدد مصالح الجميع، بما فيهم من رعوا ولادتها.
ورغم الشعارات الدينية، والتجييش المذهبي، والواجهة الثورية، يبدو أن النظام الإيراني يسير نحو نهاية مدوّية تشبه صدمة انهيار الاتحاد السوفيتي، لكن من الخارج هذه المرة، لا من الداخل.
لقد بدأ العد التنازلي لـ”جمهورية الخميني”، وما يجري الآن قد لا يكون سوى المشهد الأول من سيناريو “التصفية الكبرى”، عبر ضربات ممنهجة تُمهّد لما بعد إيران الثورة.










