في تطور لافت يعيد إلى الأذهان مشاهد من حقب تاريخية مضطربة، كتب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الثلاثاء 17 يونيو/حزيران منشورا من كلمتين فقط عبر حسابه في منصة “تروث سوشيال”، مخاطبا المرشد الإيراني علي خامنئي بكلمات حاسمة:”الاستسلام غير المشروط”.
جاء هذا التصريح بعد ساعات فقط من تهديد خامنئي الذي قال فيه إنه “يعرف مكان وجود” ترامب، ما أعاد إشعال الأجواء المتوترة أصلا بسبب التصعيد العسكري المتبادل بين إسرائيل وإيران.
العودة إلى عبارة تاريخية
إحياء ترامب لعبارة “الاستسلام غير المشروط” لم يكن مجرد تهديد لفظي، بل أعاد إلى الأذهان سياسة أمريكية قديمة ارتبطت بأكثر الحقب دموية في التاريخ الحديث، بدءا من الحرب الأهلية الأمريكية إلى الحرب العالمية الثانية، حين كانت واشنطن تتعامل مع خصومها بمنطق الحسم الكامل دون تفاوض أو مساومة.
البداية: يوليسيس س. جرانت وفورت دونلسون
في فبراير 1862، خلال الحرب الأهلية الأمريكية، استخدم الجنرال يوليسيس س. جرانت هذه العبارة لأول مرة عندما طالب القوات الكونفدرالية في معركة فورت دونلسون بالاستسلام دون شروط.
وقد ساهم هذا الموقف في تعزيز هيبة الاتحاد، وأكسب جرانت لقب “منح الاستسلام غير المشروط”.
روزفلت في مؤتمر الدار البيضاء
لكن الاستخدام الأبرز جاء خلال مؤتمر الدار البيضاء في يناير 1943، عندما أعلن الرئيس فرانكلين روزفلت أن الولايات المتحدة وحلفاءها لن يقبلوا سوى بالاستسلام الكامل لألمانيا، وإيطاليا، واليابان.
كان الهدف من هذه السياسة منع تكرار “أسطورة الطعنة في الظهر” التي غذت صعود النازية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وضمان وحدة صفوف الحلفاء وطمأنة الاتحاد السوفيتي بقيادة ستالين.
الاستسلام غير المشروط في مواجهة الطغاة
لقد طبقت هذه السياسة مع زعماء دكتاتوريين في ثلاث دول محورية:
أدولف هتلر رفض الاستسلام، واعتبر سياسة روزفلت مبررا لمزيد من التحشيد، حتى انتهى به المطاف منتحرا في برلين عام 1945.
بينيتو موسوليني سقط نتيجة انقلاب داخلي واستسلمت إيطاليا لاحقا للحلفاء، قبل أن يعدم في 1945.
هيروهيتو إمبراطور اليابان، رغم شمول بلاده بهذه السياسة، نجا من العقاب المباشر، وظل على العرش حتى 1989 بعد أن قبل الاستسلام إثر إلقاء القنبلتين الذريتين.
ترامب وخامنئي: عودة إلى مفاهيم الحرب الباردة؟
بينما يرى البعض في تهديد ترامب مجرد خطوة رمزية أو استعراض سياسي، فإن استحضار عبارة بحمولة تاريخية كبيرة يعكس نية لإعادة تفعيل مبدأ “الحسم الكامل” في التعامل مع الأنظمة التي تراها واشنطن معادية أو مهددة للاستقرار الإقليمي.
ويرى محللون أن هذا النهج يعكس توجها أكثر عدوانية ومواجهة مباشرة، على عكس النهج المرن أو التفاوضي الذي ساد خلال رئاسات سابقة، رغم أن ترامب نفسه لم يظهر دوما دعما لتغيير الأنظمة، بل حاول التفاوض المباشر مع الخصوم، مثل كوريا الشمالية.
استسلام أم مقاومة أطول؟
التجربة التاريخية تظهر أن هذه السياسة قد تكون فعالة في بعض السياقات، كما حدث مع اليابان، لكنها في حالات أخرى أدت إلى إطالة أمد الصراعات، كما حصل في ألمانيا.
كما أن إصرار خصوم الولايات المتحدة على المقاومة قد يؤدي إلى المزيد من الخسائر البشرية والمعاناة، كما حدث في العراق مع صدام حسين.
وفي المقابل، يشير المدافعون عن هذه السياسة إلى أنها تمنع الصفقات الهشة وتؤسس لسلام مستدام مبني على تغيير حقيقي في موازين القوة.
خاتمة: هل تصلح “الاستسلام غير المشروط” لزمن اليوم؟
يظل السؤال مفتوحا: هل يمكن لسياسة قاسية، ولدت في خنادق القرن التاسع عشر، أن تظل فعالة في عالم دبلوماسي معقد متعدد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين؟
في ظل التحديات الجيوسياسية، وامتلاك خصوم واشنطن قدرات غير تقليدية، قد لا تكون هذه العبارة كافية لوحدها لإحداث تغيير. لكن تبنيها من جديد من قبل ترامب يبرز استمرار النزعة الأميركية في استخدام القوة الرمزية والحاسمة في وجه ما تعتبره تهديدا وجوديا.
ومع ذلك، تبقى نتيجة هذا التهديد الموجه إلى علي خامنئي غير واضحة حتى اللحظة، في انتظار ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.










